النزوح رحلة الألم والكرامة المفقودة

د. سلامه ابو زعيتر
أمد/ مجرد التفكير في النزوح يثير وجعًا وألمًا وشعورًا يصعب وصفه، وقد جسّدته التجربة القاسية في قطاع غزة منذ بداية العدوان بعد السابع من أكتوبر 2023، فالنزوح ليس مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل هو اقتلاع من الجذور، وترك للذكريات، ومواجهة لمستقبل مجهول، إنها رحلة قسرية تُفرض على المدنيين الأبرياء بحثًا عن الأمان، هربًا من الموت الذي يطرق أبوابهم، والدمار الذي طال منازلهم وأحلامهم.
في خضم هذه الرحلة، تتكشف آلام ومعاناة لا تُطاق تطال كل فرد في الأسرة، فالجميع له نصيب من الوجع والألم والحسرة، فالنزوح القسري يلقي بظلاله القاتمة على الجميع، أما الرجال، الذين يُفترض بهم أن يكونوا السند والحماية، فيجدون أنفسهم عاجزين ومقهورين، فهم يحملون على عاتقهم مسؤولية إعالة عائلاتهم في ظروف قاسية، ويصارعون من أجل توفير أبسط مقومات الحياة، في مواجهة استغلال بشع يتمثل في ارتفاع أجور النقل وأسعار السلع الأساسية، وإن شعور العجز والمهانة الذي يراودهم يترك ندوبًا عميقة في نفوسهم. وإذا ما كانت معاناة الرجال قاسية، فإن الأمهات والنساء يواجهن معاناة مضاعفة، فبالإضافة إلى القلق على مصير العائلة والخوف على الأبناء، يجدن أنفسهن في مواجهة تحديات جسيمة تتعلق بسلامتهن وسلامة أطفالهن، وفقدان الخصوصية، والعيش في أماكن مكتظة، والتعرض للمضايقات، كلها أمور تزيد من أعبائهن النفسية والجسدية، وتجعلهن محاصرات في دائرة من الخوف واليأس.
ولا يقتصر هذا الوجع على الرجال والنساء وحدهم، فالأطفال وكبار السن أيضًا لهم نصيبهم من هذه الرحلة، فالنزوح يسلب الطفولة براءتها، ويحول الأطفال إلى شهود على المعاناة والعنف، ويجعلهم يتحملون أعباءً لا تتناسب مع أعمارهم، مما يترك في نفوسهم صدمات نفسية عميقة ويفقدهم شعور الأمان والاستقرار، وكما لعل كبار السمن الفئة الأكثر عجزًا وضعفًا، وخاصة المرضى منهم، فالنزوح يتطلب قوة جسدية وقدرة على التحمل، وهما أمران يفتقر إليهما المسنين، لذا يجدون أنفسهم عبئًا على أبنائهم، ويشعرون بالذل والمهانة وهم يتركون بيوتهم التي قضوا فيها عمرًا، ليموتوا خارجها.
لا تقتصر خسائر النزوح على المعاناة المادية، بل تتجاوزها إلى الخسائر المعنوية التي لا تُقدر بثمن، فالنزوح يمزق الأسر، ويفتت الروابط الاجتماعية، ويفقد الإنسان شعوره بالانتماء والهوية، وقد أثبتت التجارب ما أنتجه النزوح من مشكلات اجتماعية وخلافات وتراجع في العلاقات الإنسانية، مما يهدد النسيج المجتمعي والتماسك بين أفراده، وخاصة الأقارب، لصعوبة التعايش تحت الضغط والمسؤوليات المركبة، فكانت كل خطوة يخطوها النازح في هذه الرحلة هي خطوة معقدة ومكلفة تسير نحو المجهول، تاركًا خلفه كل ما كان يمثل له الحياة والامل والمستقبل..
إنها معاناة مستمرة لا تنتهي بانتهاء الرحلة، بل تبدأ معها، وبشهادة كل النازحين، لم يكن في النزوح لحظات تُبكى عليها، فوَجَعُ أيامه يتخطى كل وصف، وتتفاقم المعاناة بشكل خاص بسبب جشع بعض النفوس التي تستغل حاجة النازحين في غربتهم، ففي الوقت الذي يبحث فيه الناس عن مأوى يحميهم من ويلات الحرب، يجدون أنفسهم أمام ابتزاز مادي لا يرحم، حيث يستغل أصحاب العقارات الأوضاع برفع أجور المساكن بشكل فاحش، فمن غير المعقول أن يصل سعر شقة من غرفتين إلى 3000 شيكل شهريًا، أو أن تبلغ أجرة مخزن 1500 شيكل شهريًا، وأجرة متر الأرض البور شهريا تصل ل 10 دولارات وهذه الأرقام الفلكية لا تزيد الطين إلا بلة، وتجعل من النزوح كابوسًا مستمرًا.
في ظل هذه الأزمات التي تلاحق النازحين، تبرز الحاجة الملحة إلى تكاتف الجهود لمساعدتهم والتصدي لكل من يستغل معاناتهم، ويجب على الأفراد والمؤسسات العمل معًا لتقديم يد العون وتخفيف الأعباء عن كاهل الأسر النازحة، ويمكن تحقيق ذلك من خلال:
• إنشاء شبكات دعم مجتمعية لتنظيم فرق تساعد النازحين في العثور على سكن بأسعار معقولة، وتوفير المساعدات الأساسية مثل الغذاء والماء والبطانيات.
• توفير أماكن إيواء مجانية أو منخفضة التكلفة عبر الجمعيات والمؤسسات الإنسانية والجهات الرسمية لإقامة مراكز إيواء مؤقتة أو توفير سكن بأسعار رمزية.
• إطلاق حملات إعلامية لزيادة الوعي حول معاناة النازحين، وتشجيع التبرع والمساعدة، وفضح الممارسات الاستغلالية.
كما يجب أن تكون هناك تحركات فعالة لحماية النازحين من الجشع والاستغلال، وهنا تقع المسؤولية على الجهات الرقابية والرسمية في المجتمع لاتخاذ خطوات عملية مثل:
• وضع قوانين وأنظمة تحد من الاستغلال وترفع أسعار الإيجارات بشكل غير مبرر، وتفرض عقوبات رادعة على المخالفين.
• إنشاء قنوات رسمية للنازحين لتقديم الشكاوى ضد أي ممارسات استغلالية، مع ضمان التعامل معها بجدية وسرعة.
• سن قوانين تجرم استغلال الأوضاع الإنسانية الطارئة واعتبارها جريمة يعاقب عليها القانون بصرامة.
أخيرا، إن استمرار حالة النزوح القسري يُلقي بمسؤولية كبيرة على عاتقنا جميعًا، باعتباره ليس مجرد حدث عابر، بل أزمة إنسانية عميقة ترهق الناس بتكاليفها النفسية والاجتماعية، وإن واجب كل شريف ووطني أن يُناصر النازحين بكلمة طيبة، ويعاونهم على تخطي هذه الأزمات، فالإنسانية هي أن نكون عونًا لمن فقد كل شيء، وأن نكون صوتًا لمن صمتت أصواتهم.
حفظ الله شعبنا، ونسأله باسمه الأعظم أن تنتهي هذه الحرب ويعم السلام والأمان على الجميع..