
إسرائيل .. أمنت العقوبات فأساءت الأدب

محمد ناجي الهميس
أمد/ لم يكن سلوك الاحتلال الإسرائيلي يومًا منضبطًا بقواعد القانون الدولي أو مواثيق الأمم المتحدة، بل هو كيان وُلد على أنقاض المجازر والتهجير، وتربّى على فكرة أنّ الإفلات من العقاب هو القاعدة وليس الاستثناء. واليوم، وبعد كل حرب وكل جريمة، يتضح أن إسرائيل أمنت من العقوبات الدولية، فأساءت الأدب وتجرّأت على كل القيم الإنسانية.
كيف لا تُسيء الأدب، وهي ترى أنّ العالم لا يملك سوى بيانات شجب وتصريحات خجولة، بينما القنابل تُلقى على المدنيين بلا حساب؟ كيف لا تتمادى، وهي تعلم أنّ المحاكم الدولية رهينة للسياسة، وأنّ القرارات الأممية تُحفظ في الأدراج بدل أن تُنفَّذ على الأرض؟
في الحرب الأخيرة على غزة، ارتكبت إسرائيل ما يكفي لإدانة جيوش بأكملها: قتل الأطفال والنساء، تدمير المستشفيات والمدارس، قصف مخيمات النازحين، استخدام التجويع كسلاح، وحصار شامل يخنق الحياة من الماء إلى الدواء. هذه ليست "أخطاء عسكرية" كما يحاولون تبريرها، بل جرائم حرب موصوفة. ومع ذلك، ماذا كان رد العالم؟ بيانات، بيانات، ثم بيانات.
ولم يكن ما حدث مع أسطول الصمود سوى صورة أخرى لهذه المعادلة الظالمة. الأسطول الذي حمل المساعدات والإنسانيين من مختلف الدول، تحوّل إلى هدف مباشر لآلة القمع الإسرائيلية. إسرائيل هاجمت السفن في عرض البحر، صادرت حمولتها، واعتقلت بعض المشاركين. لم تكتف بمنع الغذاء والدواء من الوصول إلى غزة، بل أرادت أن توجّه رسالة للعالم: "لا أحد يتحدى إرادتنا، حتى في المياه الدولية". النتيجة كما تابعها الجميع كانت نهاية مأساوية للأسطول، لكنها في الوقت نفسه كشفت وجه إسرائيل الحقيقي أمام الرأي العام العالمي: دولة قرصنة تمارس العربدة خارج القانون، مستندة إلى صمت الحكومات الكبرى.
هذا الصمت الدولي لم يترك إسرائيل مجرد محتلة، بل حوّلها إلى كيان متغطرس يتعامل مع القانون الدولي بازدراء، ويعتبر أن الدم الفلسطيني، بل وحتى القانون البحري الدولي، أرخص من أن يحرّك عقوبات أو محاكم. لقد أمنت العقوبات، فتحولت من مغتصِبٍ للأرض إلى جلّادٍ للإنسان، ومن محتلٍّ يزعم الدفاع عن نفسه إلى كيان يستهزئ بالضمير البشري كله.
إنّ جوهر المأساة أنّ الإفلات من العقاب لا يشجع الاحتلال فقط على تكرار الجرائم، بل يجعله يطوّر أدوات أكثر وحشية، لأنه واثق أنّ النتيجة ستكون دائمًا: لا عقوبة، لا محاسبة، لا ردع. وهنا يتحول العالم بأسره إلى شريك صامت في الجريمة، لأنّ من لا يردع المجرم يمنحه رخصة للاستمرار.
اليوم، المطلوب أن تنكسر هذه القاعدة. أن يُدرك الاحتلال أنّ حصانته لن تدوم، وأنّ سياساته لن تمر إلى الأبد بلا حساب. المطلوب موقف دولي لا يكتفي بالبيانات، بل يفرض العقوبات، ويوقف التعاون العسكري والاقتصادي مع الاحتلال، ويدفع ملف الجرائم إلى محكمة الجنايات الدولية بعيدًا عن الحسابات السياسية.
إسرائيل التي أساءت الأدب بعد أن أمنت العقوبات، يجب أن تُواجَه بحقيقة بسيطة: العالم قد يصمت اليوم، لكنه لن يصمت إلى الأبد، والجرائم لا تسقط بالتقادم. والشعب الفلسطيني الذي يواجه آلة القمع والإبادة، يثبت أنّ الصمود أكبر من أي حصانة مزيفة، وأنّ التاريخ سيحاكم حتى لو غاب القضاء.