وهم السلام مع إسرائيل: دلالات وتداعيات

تابعنا على:   16:41 2025-10-02

امجد رفيق شهاب

أمد/ الوهم هو تصوّر ذهني غير مستند إلى الواقع، قد يكون ناتجًا عن الخيال أو عن معلومات خاطئة، بينما الحقيقة تعتمد على أدلّة ملموسة وواقع يمكن التحقّق منه بالحواس أو بالعقل أو بالمنطق.

والسلام لغويًا مصدر مشتق من الفعل سَلِمَ، ويعني الطمأنينة أو الأمان. أمّا اصطلاحًا فيُعرّف على أنّه حالة من الأمان والسكينة، وهو مناقض للحرب والنزاعات. ومصطلح السلام الحقيقي هو مفهوم شامل يتجاوز فكرة الهدن المؤقتة أو التسويات السياسية المجزّأة، بل يعني: التعايش العادل والمستدام بين الأطراف المتنازعة مع احترام حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والمساواة في جميع جوانب الحياة.

ومصطلح "السلام مع إسرائيل" يشير إلى الجهود السياسية المحلية والإقليمية والدولية المبذولة لتحقيق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين بشكل خاص، وبين الدول العربية بشكل عام. وهذه الجهود محكومة بالفشل لعدّة عوامل أهمها أسباب أيديولوجية وسياسية واقتصادية ودينية، بالإضافة إلى توازنات القوى الإقليمية والدولية.

إسرائيل تعاني من نواقص قانونية خطيرة من الناحية الشرعية والقانونية، حيث تفتقد منذ تأسيسها الذي اعتمد بشكل أساسي على وعد بلفور، الذي لم يكن قرارًا دوليًا بل تصريحًا سياسيًا أحادي الجانب من دولة لا تمتلك الأرض. وتطبيق بريطانيا له على أرض الواقع جعل منه أداة لتنفيذ مشروع استعماري صهيو-غربي في قلب العالم العربي، دفع ثمنه الفلسطينيون بالدرجة الأولى، إذ يعتبرونه سبب نكبتهم المستمرة حتى اليوم.

أما قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947 فهو توصية غير ملزمة قانونيًا. وقد جرى التصويت عليه تحت ضغوط من دول غربية كبرى على بعض الدول التي صوتت لصالح القرار، إمّا بالترهيب أو بالرشاوى، ليُستخدم أساسًا لشرعنة الاعتراف بدولة إسرائيل. وكان تنفيذ القرار مشروطًا بقبول الطرفين (العرب واليهود)، وبما أنّ الفلسطينيين والعرب رفضوا القرار فهذا يؤكد أنّ شرعية إسرائيل القانونية ناقصة.

كما أنّ إسرائيل لم تلتزم باحترام حق العودة للاجئين الفلسطينيين حسب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، وأيضًا لم تلتزم بعدم التوسّع خارج الحدود المحددة في قرار التقسيم 181.

ومنذ تأسيسها عام 1948، لم تتوقف إسرائيل عن ارتكاب انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، بارتكاب الجرائم والمجازر ضد الفلسطينيين، وتدمير قراهم، وتهجير مئات الآلاف منهم، والاستمرار في احتلال الضفة والقدس وقطاع غزة وهضبة الجولان وأراضٍ من جنوب سوريا ولبنان، إضافة إلى المجازر اليومية في قطاع غزة، وهندسة التجويع والفوضى والتهجير... إلخ.

وبالرغم من تطبيع بعض الدول العربية والإسلامية مع إسرائيل، فإنّ شعوبها لا تقبل بشرعيتها، وخاصة الفلسطينيون، لأنّها قامت على نكبتهم وتهجيرهم وتمارس نظام احتلال عنصري ضد السكان الأصليين. وإسرائيل أيضًا تفتقر للشرعية الأخلاقية في نظر عدد كبير من شعوب العالم والمنظمات الحقوقية... إلخ.

لذلك، فإنّ السلام الحقيقي لا يمكن أن يتحقق فقط من خلال اتفاقيات سياسية جزئية بين القيادات، بل يستند إلى أساس قوي من العدالة والمساواة والاحترام المتبادل، الذي يقوم بالدرجة الأولى على الاعتراف بالحقوق الفلسطينية في الحرية وحق تقرير المصير وبناء الدولة بعد الانسحاب من الأراضي الفلسطينية وتفكيك المستوطنات... إلخ.

فكل الاتفاقيات التي وُقِّعت مع الجانب الإسرائيلي لم تحقق السلام. فمثلًا: اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، واتفاقية وادي عربة عام 1994، لم تؤدِّ إلى تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بل على العكس، فقد زادت المستوطنات التي تصر إسرائيل على توسعتها على حساب الأرض الفلسطينية، وترفض إدراج مدينة القدس في أي تفاوض، والتي نقلت الولايات المتحدة سفارتها إليها عام 2018، مما أكد أن الحل الدبلوماسي لوضع المدينة المقدسة أصبح أمرًا غير مرجّح. وزاد ذلك مع صعود نفوذ الأحزاب الدينية والقومية المتطرفة في المشهد السياسي الإسرائيلي، والتي انتهجت أيديولوجية عنصرية ودينية ترتكز على زيادة الاستيطان والتوسع، ليس فقط في الأراضي الفلسطينية، بل على المستوى الإقليمي، بهدف تحقيق نبوءات تلمودية.

وقد نصح الكاتب اليهودي المغربي-الفرنسي، مؤلف كتابي "ربيع السايانيم" و"إسرائيل والحديث عما لا يُقال"، العرب بقوله:

"لا يمكن عمل السلام مع إسرائيل، لأنهم لن يقبلوا بعمل سلام معكم. وإذا اعتقدتم بإمكانية أن تقيموا السلام معهم فأنتم إمّا أبرياء أو أغبياء. فهذا مستحيل، لأن ذلك بسبب طبيعتهم: إمّا الحرب، أو نظام الفصل العنصري، أو الهيمنة، أو اجتياح أراضيكم... إمّا أنتم أو هم. بدون وهم، السلام مستحيل الآن. والدليل على ذلك: قبل حوالي 40 عامًا كان لديهم كل الأوراق الممكنة لتحقيق سلام حقيقي، وكان اليسار أغلبية، ولكنهم فضلوا صهيونيتهم وخداع الفلسطينيين. أما اليوم فلا يستطيعون تطبيق حل سلمي، ونتنياهو اختار طريق المواجهة العنيفة المستمرة معكم... إلخ."

ورفض البروفيسور إدوارد سعيد، المفكر الفلسطيني-الأمريكي المشهور وأحد أبرز منتقدي اتفاقية أوسلو عام 1993، السلام الذي يفرضه القوي على الضعيف، وصرّح في أحد لقاءاته:

"لا يمكن أن يكون هناك سلام بينما تُنتهك الأرض وتُهمّش الحقوق، ويُطلب من الضحية الصمت."

وقد أثبتت التجارب، وخاصة بعد توقيع اتفاقية أوسلو سيئة السمعة عام 1993، أنّها مجرد غطاء وأداة تُستخدم لكسب الوقت لتمرير مخططات أكبر، كتوسيع الاستيطان بأضعاف مضاعفة كما حدث في الضفة الغربية، وتطوير اقتصاد إسرائيل وترسانتها العسكرية والتكنولوجية على حساب وهم السلام. والتطبيع مع الدول العربية على مدار العقود السابقة أثبت أنّ إسرائيل لم تقدّم أي تنازلات حقيقية، بل تسعى لإخضاع الشرق الأوسط لهيمنتها.

وتبرّر إسرائيل رغبتها بالتوسع بالذرائع الأمنية، بحجة التهديدات الفلسطينية والإقليمية، مع غياب ضغط دولي حقيقي وفعّال، مما يغذّي وهم السلام. فرغم دعم قرارات الأمم المتحدة والمجتمع الدولي والاتحاد الأوروبي لفكرة حلّ الدولتين، تبقى الإجراءات الخجولة والمترددة غير كافية لإجبار إسرائيل على قبول حلّ الدولتين والقرارات الأممية واحترام القانون الدولي.

لَطالَما استمرّت الولاياتُ المتّحدةُ حليفًا استراتيجيًّا رئيسيًّا لإسرائيل، وداعمًا لكلِّ ما تقوم به، وخاصّةً بتبنّي روايتها القائمة على دور الضحيّة و"الحقّ بالدفاع عن النفس" تحت مبرِّر "الهواجس الأمنيّة".

وظهر ذلك جليًّا في خطط ترامب للسلام مثل "صفقة القرن" التي تتلاعب بكلِّ المبادئ الحقيقيّة للسلام، وتنتهك كافّة الأعراف والمعاهدات والاتفاقيّات والقانون الدولي، لإضفاء الشرعيّة على الأهداف الاستعماريّة الإسرائيليّة؛ كالاعتراف بمدينة القدس عاصمةً أبديّةً لإسرائيل، وضمِّ الجولان، وشرعنة المستوطنات، والقبول بضمّ أجزاءٍ من الضفّة الغربيّة... إلخ.

وأهمّ تداعيات وهم السلام هو استمرار غياب حلٍّ حقيقيٍّ عادلٍ وشامل، ممّا يؤدّي إلى تصعيدٍ مستمرٍّ للعدوان الإسرائيلي على الفلسطينيّين، لدفعهم إلى الاستسلام وتدمير ما تبقّى لهم من مقوّمات إقامة دولةٍ ذات سيادة. وذلك يسمح لإسرائيل بالحفاظ على الوضع الراهن بالسيطرة العسكريّة على كلّ الأراضي الفلسطينيّة في الضفّة والقدس وقطاع غزّة، متجنِّبةً بذلك أيَّ ضغوطٍ لإنهاء الاحتلال أو الاعتراف بالحقوق الوطنيّة للفلسطينيّين. وعلى مدار سبعةٍ وسبعين عامًا من رفض الاعتراف بالحقوق الوطنيّة، بات المشهد أشبهَ بدائرةٍ مفرَغةٍ مستمرّةٍ أصبح كسرُها شبهَ مستحيلٍ بالطرق الدبلوماسيّة

اخر الأخبار