
ساعات حاسمة على قطاع غزة

فاضل المناصفة
أمد/ في غزة تُضبط عقارب الساعة هذه الأيام وفقًا للمهلة التي منحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لحركة حماس للرد على خطته بشأن وقف الحرب. يعيش الغزيون لحظات فارقة، ليس فقط في مسار حربٍ طالت أكثر مما يحتمل الجسد والذاكرة، بل أيضًا في رسم ما سيؤول إليه مستقبل القطاع بعد أن تقول حماس كلمتها الفصل.
الخطة التي قدّمها البيت الأبيض تتلخص في ثلاث نقاط كبرى: جعل غزة منطقة منزوعة السلاح، إعادة إعمارها لصالح سكانها الذين دفعوا ثمناً فادحاً، ووقف الحرب فور موافقة الطرفين، بما يعني انسحاب القوات الإسرائيلية تدريجيًا وإطلاق سراح الرهائن، مقابل تجميد العمليات العسكرية من الجانبين. قد تبدو البنود تقنية، لكنها في الجوهر تضع حماس أمام استحقاق تاريخي: إمّا الموافقة على تسوية قد تبدو مُرة لكنها توقف آلة الحرب، وإمّا الرفض الذي يشرعن لإسرائيل تصعيدًا لا سقف له.
وفي جوهرها، ليست خطة ترامب سوى نسخة منقّحة لمقترحات قديمة سبق أن روّجت لها إسرائيل عبر قنواتها الدبلوماسية. الجديد فيها ليس مضمون البنود التقليدية، بل محاولة إضفاء شرعية دولية على صيغة سابقة، تقوم على إطلاق سراح جميع المختطفين دفعة واحدة مقابل تأمين الخروج الآمن لزعيم حماس يحيى السنوار ومن يختار مرافقتَه من قيادات الحركة. غير أن المقترح أُجهض قبل أن يدخل حيّز النقاش، بعدما رأت حماس ـ مدفوعة بالسياق الإقليمي وإيمانها بأن "وحدة الساحات" بقيادة إيران قد تغيّر موازين القوى ـ أن استكمال الحرب خيارٌ أنسب في تلك المرحلة. واليوم، يعود الطرح نفسه لكن تحت مظلة البيت الأبيض، وبضغط حربٍ استنزفت جميع الأطراف.
ورغم أن الخطة لا تحدد ملامح "اليوم التالي" للحرب، ولا تعيد غزة إلى وضعها الطبيعي كما كان قبل عام 2005، فإنها تحظى بإجماع عربي وإقليمي نادر. غير أن هذا الإجماع لا يعني بالضرورة أنّ الجميع يصطف خلف الموقف الأميركي المنحاز لإسرائيل ضد حماس والغزيين، بل يعكس إدراكًا جماعيًا لحجم الكارثة الإنسانية التي عصفت بالقطاع. إنه إجماع فرضته المأساة، أكثر مما أملاه التوافق السياسي، ورغبة في كبح آلة الحرب بأي ثمن، حتى لو جاء الحل هشًّا ومؤقتًا.
داخل حماس، تبدو الصورة منقسمة: رأي يدعو للموافقة غير المشروطة، على أن يتولى الوسطاء ضمان التزام إسرائيل، ورأي آخر يرفض بشكل قاطع بنودًا جوهرية كمسألة نزع السلاح أو إبعاد المواطنين إلى الخارج. بينهما يقف تيار ثالث، يميل إلى الموافقة المشروطة مع إيضاحات، خشية أن يُفهم الأمر كإعطاء شرعية للاحتلال وتجريم للمقاومة. لكن الواقع الميداني لا يرحم؛ فبعد جولات القصف المتلاحقة، لم يتبق سلاح فعلي قادر على تهديد إسرائيل، فيما تحولت أوراق القوة إلى بضع رهائن وأمل معلّق على ضغط شعبي عالمي لم يغيّر المعادلة.
ثمة شعور داخلي يتنامى في الحركة بأن الرهان على فرض شروطها في صفقة تبادل قد انقلب ضدها، وأنها دفعت نفسها وقطاع غزة إلى زاوية ضيقة، لم تشهدها مسيرة الصراع من قبل. انتظار البيان الرسمي من حماس لا يلغي الحقيقة الواضحة: رفض الخطة سيعني مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، والموافقة عليها قد يُفهم كاستسلام ضمني. وفي الحالتين، يظل سكان غزة هم الرهائن الحقيقيون، محاصرون في بقعة جغرافية ضيقة، فقدوا كل شيء تقريبًا.
وإذا كان ثمة ما يمكن تسميته "الخيار الأقل كلفة"، فهو ألا تفوّت حماس فرصة التسوية ولو بخروج آمن، لإنقاذ مئات الآلاف من الغزيين المرهقين من حرب ضروس توشك أن تدخل عامها الثاني. فهل تُدرك الحركة أن التمسك بالرهائن وحدهم لا يكفي لوقف الحرب، وأن انتظار انقلاب الموازين بضغط شعبي عالمي لن يُجدي ما دامت واشنطن تصطف بثبات خلف تل أبيب؟ أم أن العناد سيجرّ غزة إلى فصل أكثر قسوة، حيث يغدو البقاء نفسه إنجازًا والنجاة رفاهية لا تُتاح إلا للقلة؟