محمود درويش..!

الذكرى الخامسة عشر لرحيل أيقونة الثقافة والشعر

تابعنا على:   08:51 2023-08-08

د. عبد الرحيم جاموس

أمد/ رحل محمود درويش في 9/8/2008م عن دنيانا ملبيا نداء الرفيق الأعلى إثر عملية جراحية للقلب، كان المرحوم يعي درجة خطورتها، لكنه أقدم على القبول بإجراءها دون تردد أو وجل مسلما أمره لله، بكل شجاعة طالما اتسم بها محمود طيلة حياته. الذي لم يكن يخشى من الموت يوما، سوى أنه كان يخجل من دمع أمه إذا ما مات، فكان لوالدته أن تتجرع حسرته وتنهمر دموعها على فراقه، يذهب محمود إلى الرفيق الأعلى وهو خجلا من دمع أمه، واليوم نحيي الذكرى الخامسة عشر لهذا الرحيل الخجل المؤلمِ والمبكر لشاعرنا الكبير وأيقونتنا الثقافية والأدبية محمود درويش.
لقد شكل الشعر في الثقافة العربية ومنها الفلسطينية مكوناً أساسياً من مكوناتها قديماً وحديثاً، فقد سميَّ الشعر ديوان العرب، ونحن اليوم نحيي الذكرى الخامسة عشر لرحيل الشاعر محمود درويش جسداً في التاسع من أوغست/ آب الجاري 2023 م، نجد أن محمود درويش لازال يحيا معنا وبين ظهرانينا من خلال إرثه الشعري والأدبي الكبير المتماهي مع قضيته أرضا وشعبا وهوية بكل أبعادها الوطنية والقومية والإنسانية، يتعلمه صغارنا وشبابنا كما قرأه وحفظه كبارنا، نعم إنه عصي على النسيان وعلى الإختزال والزوال، فقد مثل محمود نموذجا خاصا في الثقافة الفلسطينية والعربية على مدى خمسة عقود من عمره، تمكن من التماهي مع الشعر في كافة أبعاده اللغوية والبلاغية والغنائية والموسيقية الداخلية والخارجية والإنسانية والوطنية والقومية، فقد وجد محمود درويش نفسه في القصيدة وفي الشعر فكانت سلاحه الأبرز والأمضى في البحث عن الذات وعن فلسطين الأرض والوطن والشعب والهوية والقضية بكل أبعادها التراجيدية، وترك بصمته الثقافية على الثقافة الفلسطينية والعربية والدولية، التي يشهد له بها إنتاجه الشعري والنثري على السواء، واضعاً قضيته في إطارها الإنساني الواسع، مستخدماً تقنيات الشعر بأبعادها المختلفة، فلم يكن أسير الجمود والأيديولوجيا وسطوتهما والقوالب الجاهزة، بل كان متحرراً من القوالب الجامدة، منفتحا إلى آفاق إنسانية رحبة نقلته ونقل القضية الفلسطينية معه إلى العالمية من أوسع أبوابها رافعا مستوى القصيدة الفلسطينية والعربية إلى آفاق عالية وسامية ..!
لقد كانت باكورة علاقتي الشخصية بدرويش وشعره في العام 1969م عندما كنت في بداية المرحلة الثانوية مع قصيدته (سرحان فدائي وليس بقاتل) تلك القصيدة التي عرفت من خلالها محمود درويش وشعره المقاوم وألق إبداعه ورمزيته وسعة خياله الشعري الجميل، شأني شأن أبناء جيلي في تلك المرحلة القاسية عقب نكسة حزيران .. ولا أنسى لقائي المباشر به وحضور أمسياته الشعرية الجميلة والجماهيرية في ربيع العام 1973م، عندما زار المغرب الشقيق (حيث كنت طالباً جامعياً فيه حينذاك) بدعوة من إتحاد كتاب المغرب العريق، الذي كان يرأسه حينها صديقه الناقد والروائي والمثقف الكبير الأستاذ الدكتور محمد برادة، وقد نظم له عشر أمسيات شعرية حينها غطت المدن الرئيسية للمغرب الشقيق مبتدئاً بمدينة الرباط وفي مسرح محمد الخامس الذي رغم إتساعه لم يتسع للحضور يومها، مما اضطر المنظمون إلى تركيب شاشات خارجية لتلبية رغبة الحضور الكثيف .. هذا المشهد تكرر في كافة أمسياته في المدن المغربية ..
استطاع محمود درويش أن يضع لنفسه المكانة اللائقة به وبفلسطين التي يمثلها في الثقافة العربية والإنسانية وبين الجمهور العربي الذي عشق فلسطين ودرويش وشعره، الذي يحمل رسالتها الوطنية والقومية والإنسانية بكافة أبعادها النفسية والإجتماعية والسياسية والفنية، قد إستطاع درويش أن ينقل شعره إلى المستويات الأوسع عالمياً وفنياً لتترجم أعماله إلى عشرات اللغات العالمية، حتى الصينية منها، عندما نسقت معه رحمه الله لترجمة (ديوان أعراس) إلى الصينية على نفقة وزارة الإعلام السعودية سنة 1985م، حيث كان يومها يقيم في باريس، أتصلت به هاتفيا وأبلغته برغبة باحث صيني مقيم في الرياض حيث يتابع دراساته العليا في الأدب العربي بترجمة (ديوان أعراس) وأن وزارة الإعلام السعودية ستتكفل بطباعته باللغة الصينية، فأعطى موافقته ومباركته لهذا العمل فورا وبلا شروط معبرا عن شكره الجزيل للباحث الصيني ولوزارة الإعلام السعودية ..
محمود درويش أيقونة الشعر والثقافة الفلسطينية والعربية بلا منازع، حتى بعد مرور خمسة عشر عاما على رحيله ونحن نحيي ذكراه الخامسة عشر للرحيل، يبقى هو وشعره حاضرا وباق فينا ومتسيدا على عرش القصيدة الفلسطينية والعربية في عمقها الوطني والقومي وبعدها الأنساني، سيبقى شعر محمود درويش نبراسا خالداً وسيبقى رمزاً كبيرا للهوية الوطنية والقومية والإنسانية بكل أبعادها ....
عصيٌ على الزوال والإندثار، سيبقى ملهماً للشعراء والأدباء وللأجيال من بعده، كان درويش متوافقاً مع ذاته، مندمجاً في الشعر إندماج الملح في ماء البحر، مدركاً خصوصية وعمومية رسالته الأدبية الإنسانية، كان محمود درويش ظاهرة عصية على التقليد، لأنه خرج من نطاقات التقليد وقيوده إلى أرقى مستويات الفن والإبداع والرموزية الأدبية والشعرية منها خاصة، ليمثل مدرسة شعرية قائمة بذاتها.....
نحن اليوم نحيي ذكراه الخامسة عشر لنؤكد على ضرورة مواصلة العناية بإرثه الثقافي الأدبي النثري والشعري، ونشره وتعميمه لما فيه من رسالة إبداعية وطنية وقومية إنسانية متكاملة كتكامل شخصية محمود ورمزيته الأدبية والوطنية والانسانية وما مَثله من دور بالغ الأهمية في بعث مسيرة الكفاح الوطني وتقديم القضية والرؤيا والحقيقة الفلسطينية للصراع مع الصهيونية والإستعمار، مخترقا بها ساحات دولية أدبية وثقافية كانت حكرا فيما مضى على الصهاينة وانصارهم، ولما للأدب والشعر والثقافة من دور ثقافي وتعبوي فعال في مسيرة الكفاح الوطني والقومي والإنساني.
رحم الله شاعرنا الكبير محمود درويش

اخر الأخبار