تركيا من الناتو إلى الاتحاد الأوروبي .. قفزة غير متوقعة

تابعنا على:   20:58 2023-07-12

صالح عوض

أمد/ قبل اشهر قليلة وفي حملة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية تنافس بايدن وماكرون كما الكثير من حكام العواصم الاوربية في شيطنة ارودغان والوعيد باسقاطه في العملية الانتخابية وتحرك السفير الامريكي بانقرة بشكل مباشر لتعزيز قوة المعارضة ووعدها بضخ 300 مليار دولار في البنك التركي من البنك الدولي والحلفاء في حال تم اسقاط اردوغان فهل نسي اردوغان هذه الهجمة الشرسة والمؤامرة القذرة حسب تعريف وزير داخليته ام هل يبتلع الغربيون بصاقهم فيرحبون به في بروكسل واحدا من اقوى الاعضاء في الاتحاد الاوربي؟؟ ثم هل رغبة اردوغان في حرصه على دخول الاتحاد الاوربي حقيقية وماهي بدائله؟.. يبدو أن الرجل يسابق الزمن ويتحرك بكل اوراقه بلا تردد وفي هذا السياق تأتي قفزته غير المتوقعة.

تركيا واردوغان حالتان استثنائيتان:

ادراك الجيوبوليتيك للبلد وادراك عناصر قوته الذاتية شرط اساس لبناء رؤية واستراتيجية لتحرك مفيد ومنتج وهنا لابد من تدبر هذه الجغرافية القلقة بين قارتين وما فيها من قوى جذب وتنافر ودوافع صراع وشروط تحالف لا يستقر على حال وتدافع لا يتوقف مع قوى دولية لحسم معارك كبيرة.. هذه هي السمة الاساسية لتركيا منذ 500 سنة على الاقل حيث اقام العثمانيون دولة بمواصفات خاصة وبرسالة تجعل من الاتراك كفارس يمسك سيفه ويدفع فرسه في سلسلة معارك لا تتوقف حتى يضمن استقرار سلطنته.. فأصبح قدر تركيا منذ تلك البدايات -حتى اقاموا دولة مسلمة على ابواب اوربا- المواجهة العسكرية وتدبر معادلة التحالفات والمواجهات ولقد ترك هذا من مخلفات وأثار في ضمير ووعي المنطقة ما يضع الاتراك في حالة السؤال المستمر عن الوجهة والتوجه والترصد.. الامر اذن ليس جديدا فمنذ ولادة العثمانية ولدت التحديات الكبيرة والمتتالية حتى تم اسقاطها وتقسيم جسمها على الدول الاستعمارية في عملية شرسة تحالفت فيها كل قوى الغرب الاستعمارية.. تركيا الممتلئة قوى جذب لا تقل عن قوى الطرد، فالي اي الاقطاب تنجذب هل الى عالمها التاريخي الاسلامي كما يتغنى كثير من العشاق للعثمانيين في وطننا العربي ام الى اوربا حيث الارباح والدخول على معمل القرارات الدولية؟

تركيا تقف على جملة تحولات ووقائع تفككها وتعدل موقفها وتصيغ رؤيتها المتجددة بحسابات لايمكن ان تراعي الا مسألتين الاولى الافلات من الحصار الغربي والثانية بناء دولة قوية اقتصاديا وامنيا.

وكما كان علينا فهم الجيوبولتيك الخاص بتركيا فان علينا بدقة فهم شخصية هذا الرجل الذي يسير تركيا بمؤسساتها في سنواتها الاخيرة وذلك لكي نستطيع متابعة حراك تركيا في الاقليم والعالم.. فهذا الرئيس مشبع بعناصر شخصية اولها الايمان بتركيا العظيمة وثاينها ادراكه قوة الغرب واحتمال بطشه والثالث انه لابد من السير بجوار مسيرة الغرب متجنبا أي مواجهة حقيقية بل وداعيا الى ان يكون جزءا منه.. رغم كل ما يمثله ذلك من فقدانه الدور الحقيقي في المنطقة وقضاياها وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

يتحرك اردوغان بروح سياسية مغرقة في الفن السياسي لدرجة فقدان الحواجز النفسية والتاريخية تجاه مسألة التعامل مع القوى الامبريالية.. بل يصل الحد الى علاقات استراتيجية امنية وسياسية واقتصادية مع دول تقود المعسكر الغربي..

جاء اردوغان بعد مائة عام ليرى ان التخريب في تركيا قد وصل الى كل شيء التعليم والاقتصاد والثقافة والمجتمع بعد أن فعل النظام الاستبدادي اللائكي العسكري بمنهجية بالغة ما قذف بتركيا خارج السياق التاريخي وضد انتمائها الحضاري.. جاء اردوغان وتركيا تتسول من اوربا وتقدم مقابل ذلك من شرفها وكرامتها وهويتها..

هنا لم ير اردوغان ان عليه اتخاذ موقف من كل هذا دفعة واحدة فهو ليس شاعر ولا مفكر ولا منظر انما هو سياسي يريد ان يقود سفينة تركيا بعيدا عن الدوامات التي اسقطتها.. وهنا وجد نفسه ان عليه السكوت عن مفاسد كثيرة داخلية وخارجية واحيانا يسايرها في تحالفات مثيرة للقرف والتقزز.. ادرك اردوغان ان عليه تجميع عناصر القوة الداخلية في ظل عدم فتح صراعات اقليمية ودولية قد تقوض كل احلامه.. وبمنهجية مرحلية بدأ الانتقال من مرحلة الى اخرى.. وحتى الان الامور تسير معه بنجاحات رغم صعوبتها الا انها تكشف عن شخص سياسي بشكل منقطع النظير..

أوكرانيا والتسليح والانتخابات:

لقد تولدت الازمة بين تركيا وامريكا في اعقاب التملص الامريكي من اتفاقيات تزود تركيا بموجبها بطائرات اف 35 وبشبكات باتريوت.. بل ووصل الامر الى اتخاذ خطوات عقابية ضد قطاعات معينة في تركيا ولقد وصل الامر بتهديدات من قبل الرئيس الامريكي السابق ترمب بتدمير الاقتصاد التركي وفعلا تم تحريك امريكا لحلفائها لتدمير الاقتصاد التركي من خلال لعبة العملة وانخفاض قيمتها وارتفاع معدل التضخم..

بحثت تركيا عمن يملأ الفراغ فكان السلاح الروسي لاسيما شبكات اس 300 واس 400 معوضا قويا للسلاح الامريكي وحققت تركيا بذلك مد يد التواصل مع الروس الذين سبق لهم الاشتباك مع تركيا في عدة ملفات عويصة..

كانت تركيا في حالة حرجة امام الغرب فهي مهما قدمت روسيا من علاقات تعاون وتشارك الا ان تركيا تدرك ان الخطر الاكبر سوف ياتيها من الدول الغربية ولهذا لابد من التمترس على الاقل حاليا على الارض الغربية..

جاءت ازمة اوكرانيا فرصة ثمينة للاتراك حيث نشطت الدبلوماسية التركية في التوسط من اجل صفقة القمح التي كشفت قدرة الاتراك ان يلعبوا دورا وسيطا مقبولا دوليا.. ومن جهة اخرى اصبح اصحاب القرار الغربي اكثر ادراكا بحاجتهم لتركيا التي تحتل لعب دور الوسيط غير المتقوقع في دائرة تحالف معين..

اجاد اردوغان اللعب كوسيط محترم من قبل الروس والاوكران وهذا ما ازعج الزعماء الاوربيين الذين يرون في هذا عدم وفاء لالتزامات الناتو والسياسة الغربية.. الا ان الزعماء الغربيين تعاملوا مع الموضوع باقل الخسائر وهنا كان لاردوغان صوت يعلو من حين لاخر حول موضوعات حساسة.

كان الغربيون كمن يبلع سكينا في حلقه ماذا يفعلون باردوغان الذي يحاول استغلال كل ظرف لتحسين شروطه.. فوجد حكام الغرب وعلى راسهم بايدن وماكرون وبتغطية بروبوغندا واسعة من وسائل الاعلام الغربية ضد اردوغان والتخلص من ابتزازاته ومقايضاته.. لم تكن الانتخابات عملية تصويت بين متنافسين بل بين نهجين متناقضين بشكل كامل كانت الانتخابات مصيرية لتركيا وتركيبها الداخلي وهويتها وتحديد وجهتها القادمة ولخطها السياسي الا ان النتائج كانت مخيبة لصانع القرار الامريكي والاوربي وفاز اردوغان وحزبه في مهرجان مشحون بالعواطف وانهار تكتل المعارضة اللائكية المتطرفة الامر الذي يعني تسلح ادوغان مجددا بالموقف الشعبي الشرعي لتكون مواقفه اكثر تصلبا وخطواته اكثر وضوحا نحو انجاز المراحل الاخرى من مشروعه... ولعلنا نؤكد ان مجيء هذا النجاح في مرحلة تصاعد الازمة الاوكرانية جمّد بروز الحنق الغربي تجاه اردوغان ولكنه لم ينفه.. وهنا تأتي المناورة الجديدة بعد أن ارتكبت السويد حماقة التقفها اوردوغان واجاد اللعب بها.. فحكومة السويد غير المسؤولة سكتت على ممارسة خرقاء لاحد الموتورين بحرق نسخة من المصحف الشريف.. هنا صعد اردوغان موقفه ضد السويد التي لم تجد بدا من الاعتئار وادانة العمل القبيح وسن قوانين لا تسمح بعودة هذا الفعل الفاحش.. وتدخل السويد في مفاوضات مطولة مع الاتراك الذين قدموا شروطهم لكي يتسنى للسويد تقديم طلبها بالالتحاق بالناتو.. هنا كان لابد ان يرمي اردوغان سنارته ويعلي سقف مطالبه بان يطالب بالانضمام الى الاتحاد الاوربي.

فهل يلعق ماكرون حذاء اردوغان كما قال لكي يقنعه بالتحاق السويد الاوربية الى الناتو..؟ ما هو الموقف الاوربي والامريكي لماذا يبدو عليه التشتت والتباين من يوم لاخر تجاه طلب اردوغان الالتحاق بالاتحاد الاوربي؟ فعلى باب الاتحاد الاوربي انتظر اردوغان ومن سبقه طويلا فهل ان الاون ليفتح الباب؟ وماهي المصالح الاستراتيجية التي يطمح اردوغان لتحقيقها؟

اردوغان بين روسيا والاتحاد الاوربي؟

بلا شك قدم الروس لتركيا مايثبت حسن النية وما يعوضهم عن السلاح الامريكي هذا صحيح لكن المسألة غير خاضعة لحسابات جزئية فلا زالت امريكا والدول الاوربية تمتلك القرار الدولي وقوة البطش العليا ومن هنا ينبغي ان ينخدع اردوغان بنتائج الازمة الاوكرانية المحتملة فلا احد يمكنه التنبوء بها ثم حتى لو كان مالها لصالح الروس فذلك لن يكون قبل عدة سنوات وفي هذه السنوات يمكن ان يصبح العدو الاخطر للغرب تركيا ويتوجه الغرب لاسقاطها وتدمير كل ما بنته ولن تجد حينها من يتحالف معها او يساندها.. ومن هنا تستقبل تركيا اردوغان علاقاتها مع الروس بود عال لكنه لايمنع تزويدها لاوكرانيا بالمسيرات..

علاقة تركيا مع الروس تاريخيا ليست اقل خطورة من علاقة تركيا مع الغرب.. فلقد كانت الحرب متتالية وكبيرة بين الروس والترك وكان اكثرها فظاعة اقتطاع الاتحاد السوفيتي جمهوريات عثمانية في القوقاز والبحر الاسود وسواها ضمها للاتحاد السوفيتي.. ومن هنا فلا أمان في الباطن التركي تجاه الروس الذين يتحركون الان لفرض انفسهم قوة دولية رئيسية في العالم لاسيما وقد شهدت كل ساحات التوتر اشتباك تركي روسي في سورية وليبيا والسودان وسوى ذلك.

يدرك الاتراك ان اوربا لن تقبلهم في الاتحاد الاوربي فالامر صعب تماما والسبب الرئيس هو ان تركيا كتلة اسلامية ضخمة لو تم دخولها في الاتحاد وانساحت ملايينها في المدن الاوربية تجارة وحضورا يعني ان الاسلام في اوربا لن يكون فقط مهاجرا بل مستوطنا ومقيما الامر الذي سيرفع من اسهم المشاركة الفاعلة بعيدا عن قمع اللائكية الغربية.

يدرك الاتراك انه لن يكون مرحبا بهم في الاتحاد الاوربي فلقد تحركت تركيا كثيرا نحو الشرق الروحي والثقافي والانتماء خلال العشريات الاخيرة في ظل عهد اردوغان.. وتركيا لم تقبل في الاتحاد الاوربي يوم كانت اللائكية التركية الشرهة والقاسية تسيطر على كل شيء في تركيا فكيف يمكن ان تقبل اوربا تركيا الان بعد ان وضعت قدمها على طريق استعادة هويتها الحضارية وانتمائها الحضاري..

ماذا يريد اردوغان:

اردوغان لايريد الانضمام للاتحاد الاوربي وهو يدرك استحالة ذلك لكنه يلوح بهذا الطلب مقابل قبوله لانضمام السويد للناتو وذلك لكي يحقق اكبر مكاسب مقايضة مع الاوربيين والامريكان.. سترتفع عنه العقوبات وقد يتم سن قوانين اوربية من الاتحاد بخصوص الضريبة والتجارة البينية مع تركيا وكذلك بخصوص تحرك الاشخاص والبضائع بدون تقييد وكذلك برفع الحظر عن تزويد تركيا بالسلاح النوعي والتكنلوجيا النوعية وكذلك بمطاردة جماعات المعارضة المسلحة التي تتخذ من اوربا ملاجيء امنة..

انها تركيا المعاصرة واردوغان نموذج الحاكم والقائد السياسي الذي لايهمه حجم الانتقادات من خصومه ولا يلتفت الى التنبيهات والتحذيرات التي تؤكد له انه يسير في طرق وعرة وان تحالفاته القائمة لا مستند شرعي واخلاقي لها.. هو يرد ببرود وهدوء انه لن يكون في وجه العاصفة وانه يراكم انجازات.. فالى متى سيصبر عليه الغرب وهل يستطيع ان ينجو؟ الطريق طويل جدا امام تركيا وبدون علاقات قوية تجارية وسياسية وامنية بالمحيط العربي والاسلامي فستظل تركيا صغيرة في مواجهة الاعداء الكثر ولكن حتى هذه الخطوة تحتاج دراسة وترتيب لكي لايتم استفزاز الغرب المستفز اصلا ضد أي محاولة تقارب في الامة.. الكلام في السياسة غيره في الفكر والثقافة والشعر فهنا تكون الحكمة هي المنشود اما هناك فالوضوح والصدق والتفاعل الفاقع..

نتفق مع اردوغان او نختلف ليس هذه المهم بالنسبة له وليس مهما كذلك بالنسبة لنا فالمهم هو ان تنجو تركيا من كمائن سياسية استراتيجية توقعها من جديد خارج أي امل او حلم بالعودة الى سياق الامة ومستقبلها.

كلمات دلالية

اخر الأخبار