إحياء الكتلة الاسلامية حاجة إنسانية ماسة

تابعنا على:   16:20 2022-02-08

صالح عوض

أمد/ القارة المتوسطة كما قال كسينجر وزير خارجية أمريكا الأسبق أو محور طنجة جاكرتا كما وصفها المفكر الجزائري مالك بن نبي، مسرح عمليات أصحاب المشاريع الدولية ومجال تنافس المشاريع الإقليمية، والشاغل المرهق–تاريخيا-للسياسات الدولية ومراكز المستشرقين والأبحاث وصناع القرار الكبار في العالم.. ورغم بروز تحديات مستجدة أمام المشاريع الاستعمارية كالنازية والشيوعية سابقا، وكما هو الحال في موضوع الصين ومشروعها العملاق واقتصادها المتنامي حاليا، إلا أن الصراع مع "الكتلة الثالثة" لم يتوقف.. والسؤال هنا يدور حول سبب إصرارهم على مواصلة حربهم، وعلى تسميتنا كتلة ثالثة والإجابة السريعة: ذلك لإبعادنا عن جوهر المعركة-المفاهيم والقيم-التي لا تقف في حدود "الكتلة الإسلامية" إنها تمتد في المجتمعات الغربية بشكل عميق؟
طبيعة المواجهة مع الامبريالية:
في الشمال اشتبكوا في صراعات ” شرق – غرب “ بين الكتلة الاشتراكية والرأسمالية بعد صراعهم ضد النازية، و داخل الغرب نفسه تقاتلوا كما حصل في حروب أوربا المهلكة عبر قرون سابقة، وفي حروب أمريكا الداخلية ولكنهم سريعا بعد انتهاء كل معركة يعودون الى الصراع الجوهري التاريخي المتواصل منذ ما يقارب ألف سنة ضد الكتلة المتوسطة بحروب تحت عناوين متنوعة.. لم يغيبوا عن المنطقة إلا ليعودوا رغم تغير أيديولوجياتهم إليها أكثر شراسة وعنفا ولم يبدلوا توجهاتهم لتدمير هذا الخصم العنيد.. يتوارثون ذلك لأسباب عديدة و في الوقت نفسه يتكشفون عن حقيقتهم في تكوين مجتمعاتهم وبناء منظوماتهم الفكرية فلقد أقاموا كياناتهم على القهر والقتل ولئن كانوا في أوربا الشرقية الاشتراكية قد ثبتوا دولهم على جثث ملايين البشر وبمناهج قصرية أحادية فهم في أوربا الغربية لم يكونوا أقل من ذلك عتوا وقهرا لثبيت نظامهم الليبرالي اللائكي كما حصل في فرنسا وكل ذلك لسوق الانسان الى مرحلة العبودية من خلال البنوك والشركات، وهيمنة النظام الرأسمالي ومستتبعاته الثقافية والسياسية، ولهذا حذر المنصفون من الفلاسفة والمفكرين الغربيين من مغبة المسير في هذا المنحى المختل على صعيد الانسان وكرامته وعلى صعيد المجتمع وسلامه وعلى مستوى الكون وتوازنه.. لم يكن أول هؤلاء المفكر الكبير أوسفالد سبينقلر صاحب الكتاب الشهير في النصف الأول من القرن العشرين "تدهور الحضارة الغربية" كما لن يكون أخرهم المفكر الفرنسي ميشيل أونفري صاحب كتاب "حتمية انهيار الحضارة الغربية"، وقد خاب ظن الفيلسوف الكبير توينبي عندما توقع ان الحضارة الغربية ستعالج أزماتها.. كما تؤكد بحوث ودراسات في شتى مجالات الحياة ترصد فشل الحضارة الغربية في إيجاد حلول لما انشأته على صعيد الانسان والمجتمع والكون من اختلالات، وهذه البحوث والدراسات تجد رواجا لدى الإعلاميين والمهتمين في السياسة وبدأ الصوت بها يعلو وتتكون على ضوئه جمعيات ومؤسسات في كثير من دول العالم.. وهكذا تجلى منهجهم على شقيه: الاستغلال داخلياً والحرب خارجياً.. وهكذا نقترب من فهم نقمتهم من الكتلة الإسلامية، ومعرفة العميق من دوافعهم إنه ليس نهب ثرواتنا وفتح أسواقنا فقط فهذا عرض وليس الأصل إنما الأصل في الموضوع انهم يحاولون الاطمئنان الى تفريغ الأمة من أغلى ما تملك وأخطر ما تملك إنه منهجها الخاص "المفاهيم والقيم" وذلك اما بتشويهه أو استبداله أو قمعه وشيطنته.. لان المفاهيم والقيم هي المهدد لمنهجهم وامبراطوريات الاستغلال والحروب.. انها القيم التي تجعل الامن الداخلي والسلام العالمي دينا يتعبد به الناس على مبدأ السورية والعدل.. ويتبع ذلك حرصهم على حرمان الامة من أدوات التكنلوجيا الحديثة والتي يسمحون بها لأمم أخرى كاليابان والصين وكوريا الجنوبية ذلك لأنها كيانات لا تمتلك أي خطر جوهري على منهج القوى المسيطرة على مصير الشعوب الأوربية والأمريكية.. فالصين واليابان وكوريا وسواها من الدول التي تشهد تطورا اقتصاديا تكنلوجيا هي في الحقيقة تعمل في البستان نفسه الذي يشرف عليه النظام الرأسمالي ورغم محاولات الصينيين استعادة ثقافتهم الشعبية لملء الفراغ الروحي والمعنوي الا انها ثقافة محدودة لا فعالية فيها ولا إمكانية لتصديرها.
طبيعة استثنائية :
من عجائب أمر هذه الأمة أنها لا تقر بالهزيمة فرغم وقوع بلدانها تحت الاستعمار المدجج بالسلاح والتكنلوجيا إلا أنها في مواقع عديدة تنتصر بقليل سلاحها وعتادها وجندها على جحافل المعتدين وترساناتهم ويكفي ان نضرب مثلا في القرن الأخير الثورة الجزائرية والمقاومة العراقية والافغانية.. هذا بعد مواجهات عديدة متناثرة هنا وهناك على مدار القرنين السابقين بل وفي مراحل تاريخية حاسمة كما حصل مع صلاح الدين الايوبي وعادت الأمة تتحسس شخصيتها وتعاود الافتخار بتاريخها ومجدها والتفاؤل بانها قادرة على العودة من جديد الى السيادة وترى ان لديها من الإمكانات ما يؤهلها لذلك.. وهذا عكس مسيرة الحضارات التي تكسرت بعد أن هزمت فتلاشت عن وجه الأرض ولم يبق منها شيء على الصعيد المعنوي او المادي وعادت مجموعة أطلال.. وليس هذا هو الغريب في حركية الأمة فقط بل هناك سمة خاصة بالأمة لم تشترك معها أمة أخرى ولا حضارة أخرى تلك المتعلقة بالمنهج الذي يصنع المقاومة والبناء الحضاري وصيرورة المسيرة.. وسنضطر من حين الى آخر إعادة هذه الفكرة وبطرق مختلفة لأنها جوهر المسألة.
فمنذ الإمبراطورية الرومانية إلى الإمبراطورية السوفيتية تكشف للجميع أنه بمجرد سقوط الإمبراطورية تنسحب قيمها وعقائدها وثقافتها شيئا فشيئا من حياة الناس، وهذا ما يكشف حقيقة أننا لا نجد اليوم من يتبنى فكر وقيم الحضارة الرومانية، ولا نجد للحزب الشيوعي الذي كان يعد بعشرات الملايين في روسيا والدول الاشتراكية، أي فاعلية أو حضور في نفوس الناس أو ثقافتهم.
بل لعل دولاً أوربية كفرنسا قامت بقطيعة تامة مع الماضي وتاريخه وملاحمه وتنكرت بعنف -من خلال ثورة دامية ضد القيم التقليدية-للمجتمع الذي كانت الكنيسة والإقطاع يتحكمون في مقاليد أموره قرونا.. بل اتجهت فيما بعد ضد الدين بتطرف باسم العلمانية والليبرالية وهذا شأن العديد من الدول الأوربية.. فيما ظلت مكونات الأمة القومية والمذهبية في حالة تكامل وان كانت في وضعية كمون .. وظلت رموز الأمة تحتل الموقع المقدس في ضميرها ووجدانها فمحمد والذين معه: أبوبكر وعمر وعلي وعثمان وحمزة أبوعبيدة و خالد و الحسن والحسين وسعد والمثنى وعقبة وطارق وأئمة الدين الشافعي و أبوحنيفة ومالك وابن حنبل والليث وسفيان الثوري ورجال المقاومة والثورة سعيد بن جبير و الاخرون و أيضا في شتى المجالات.. بمعنى ان مسيرة الأمة مستمرة متدفقة وظلت القيمة العليا تدور حول صنف من الرجال القدوة منذ أكثر من ألف سنة الامر الذي يفتقد له الغرب حيث يعود الى رموز الثورات والصراع منذ قرون قليلة..
وعلى صعيد آخر نرى كيف تتحرك منهجية الحضارة الغربية في استيعاب الطاقات الفكرية والأدبية والعلمية من البلاد المستعمرة وهي في هذا تفرغ المجتمعات البشرية من طاقاتها التي كان يمكن لها الاسهام في ترقية شعوبها ومواجهة تحديات المرض والفقر والتخلف وهذا اخر شيء يمكن ان يفكر فيه الاستعماريون.. فلقد قام الاستعمار بعد ان كسّر المجتمعات في افريقيا واسيا بجلب طاقات أبناء هذه المجتمعات وتذويبهم في مجتمعاته ليكونوا فيها تبعيين بلا قدرة على التوجيه بحثا عن شروط معيشية ميسورة.
في حين حافظت الحضارة العربية الإسلامية على خصوصيات الشعوب وقوتها الذاتية التي تشكلها لأنها بداية تقر بالتنوع والتعاون وضرورة قيامها بدورها في البناء التنوعي لإغناء الحضارة الانسانية وهنا من جديد تظهر أهمية التذكير بالمنهج بمفاهيمه وقيمه، وتقديم خدمات نوعية من كل أهل قومية لتصب جميعا في بوتقة الحضارة .. فوجدنا ان الشعوب التي تشكلت منها الأمة تتحرك بفاعلية ليكون لكل منها مجد كبير في إطار الأمة الواحدة لم تحققه عندما كانت منعزلة ومنفردة ونضرب لذلك ما وصل إليه الفرس والكرد والترك والبربر وسواهم من القوميات في ظل المنهج الإنساني..
لابد من الإقرار أن الإسلام لم ينسحب من الحياة إلى المسجد واللاهوت وكراريس الفقه المجمد رغم كل ما قابله من محاولات التشويه والصرف والعنف والقهر ومحاولات الاستبدال .. لأنه يتقدم برؤية للبشر تحمل بريقاً خاصاً لدى كل منصف ومثقف حقيقي في الغرب كما تكلم تولستوي وروجيه جارودي ورينه قينون وسواهم.. وظل الإسلام مجسداً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.. وبقيت الأمة من خلال علمائها وتمسكها بدينها تحمل الإسلام كما هو واضح.. وبلا انقطاع. والإسلام ليس عقيدة فقط وليس عقيدة وشريعة فقط فو كان كذلك كان يمكن ان تتم محاصرته في علم الشريعة واللاهوت.. لكنه بالإضافة الى كونه عقيدة وشريعة فهو أيضا مفاهيم وقيم منزلة في سلوك وقوانين لا يمكن التفلت منها او التصادم معها.. فكانت حياة الانسان والمجتمع والكون مشمولة في هذه الثلاثية المباركة.
– حضارة المادة تفلس :
نعم يتم في المجتمعات الغربية توفير الغذاء والطبابة والحماية المجتمعية لاسيما الاروبية اما في المجتمع الأمريكي فعشرات ملايين البشر بلا ضمان صحي او اجتماعي وذلك يمر بهدوء لإحكام ربط الحبال على خناق الأنظمة والمواطنين المثقلين بالقروض.. كما تم سلب ما ناله العاملون من خلال تضحياتهم.
– قيادة المجتمعات الامبريالية مفلسة على الصعيد المعنوي والقيمي لكنها لا تنفك تستعرض عضلاتها لتأديب الداخل وترهيب الخارج .. وها هي الاحتجاجات عنيفة في فرنسا لم تشهدها البلاد من قبل.. فلقد مر عليها عامان والحال نفسها.
– ولقد كانت هذه الحضارة خلال تحركها الخارجي في حالة عدوان مستمر فدمرت مجتمعات ودولا وألقت الرعب في ملايين البشر في محاولات عنصرية لتصفية الشعوب لأسباب عدة مرة بقصد السيطرة على الأرض ومرة بسبب تجويف الأوطان من إثنياتها الاجتماعية لحصرها في لون اجتماعي واحد .
لقد أخذت الفرصة كاملة فكانت طاغوتاً جباراً على البشرية .. ويمتد الأمر الى توزيع العالم إلى دوائر نفوذ بين أصحاب المال الكبار الذين يشكلون حكومة سرية .
– لقد قادت الدول الغربية المؤسسات الدولية عشرات القرون ووجهتها إلى غير الحق الأمر الذي افقد قيمة الحق في أذهان الناس وشوش على القضايا الكبرى ، ومن باب التسيّد على العالم قام الاستعمار بتقسيم الجغرافيا بطريقة فجة تكتنز المشكلات والعقد التاريخية .
– رغم كل ما سبق فان الخلل البنيوي في النظام الرأسمالي الذي يعيش تحت وطأة دستور عاجز نشأ عنه الشرخ الإنساني بداية، وواقع تمارس فيه القوة والغطرسة والاستقطاب الذي تعيشه المجتمعات الغربية.
ما هو البديل الحضاري:
وفي مقابل هذا ينبغي النظر إلى الإنسانية التي تواجه عصابات المال ومافيا الإعلام ومؤسسات السطو على كرامات الناس في مراكز المال .. الإنسانية التي تجد نفسها مكبلة بقيود اقرب الى العبودية من قبل مجموعات قليلة تتلهى بمصائرها.. الإنسانية التي عبرت عن ضميرها أكثر من مرة في أمريكا وفرنسا وبريطانيا تعيش التمزق والضنك وهي الى المنقذ والمخلص مشدوهة الوجدان.
– هذه الإنسانية بحاجة ضرورية وماسة للمخلص والمنقذ حتى لو لم تستطع الإحساس بحاجتها جراء ما يرهقها من متاعب ومخدرات لأعصابها ، ارتكبت هذه الحضارة مجازر في اليابان والعراق وأفغانستان وفيتنام وسوى ذلك هذا فضلاً عن ظروف منشئها الدامية.. فأصبحت بهذا السلوك غير أمينة على المسيرة البشرية .
هل الصين بديل؟ :عندما يحجز مئات ملايين البشر خلف أسوار الصين وتكتم الأفواه وتحبس الأنفاس ولا وجود لمعارض سياسي ولا حرية صحافة ولا وجود لعمل سياسي على تنوع حزبي.. في بلد يتم قمع القوميات والفتك بمقدساتها وحجر ملايين منهم في معامل وورشات عمل .. يصبح أي حديث عن امتلاك الصين دفة قيادة البشرية أمراً سخيفا لا قيمة له .
– صحيح أن الصين تطلق الأن مشروعاً ضخماً بآلاف مليارات الدولارات لتشكيل عالم اقتصادي مختلف عن ذلك الذي تديره الولايات المتحدة الأمريكية.. وقد استدعى هذا المشروع الضخم فتح القنوات مع العديد من الدول المتضررة من هيمنة النظام الرأسمالي وسطوته، وانضم للصين عشرات الدول وبدأ العمل على إقامة الجسور و شق الطرق وتعبيدها بآلاف الكيلومترات وبضخ مليارات الدولارات للدول الأساسية في المشروع لبناء طرق النقل .
– استطاعت الصين حتى اللحظة من التقدم اقتصادياً بشكل استثنائي واستطاعت ان تدخل استثمارات في المجالات سالفة الذكر كما حصل بينها والباكستان.. حيث قامت الصين ببناء ميناء جادر الاستراتيجي والذي سيكون له دور أساسي في شبكة طريق الحري .. وقد تحركت الصين شرقاً وغرباً في القارة الإفريقية تدعم أنظمة سياسية وتقديم مشاريع استثمارية.
– البديل الحضاري :
هنا بالضبط يكون البحث عن طلائع النهضة وضرورة وجودها ممثلة منهج حضاري إنساني وهنا تتعاظم مسئولياتها في إدراك أن أي خطوة على صعيد تقوية الأمة سيرافقها خط الدفاع عن الإنسانية وحمايتها، وهذا في اطار توجيهات القيم التي صنعت الأمة وهيأتها لرسالتها.. وهذا يعني بوضوح أن لا حل حقيقي لأزماتنا الا من خلال رؤية جادة لحل الأزمات الإنسانية ولا نصر لأمتنا على الطرق السابقة فنحن لسنا الان في واردة الحديث عن الغلبة انما نصرة القيم الإنسانية وتعزيزها لان البشرية جميعا الغالب والمغلوب يرسفون في اغلال الاستعباد..
ان الوعي بما نحن ازاؤه يقرر لنا ان دفاعنا عن مقدساتنا وامتنا ينبغي ان يكون في صيرورة دفاعنا عن الانسان كل الانسان في الأرض كل الأرض باستنهاض الروح الإنساني ضد الاستعباد والاحتكار والقهر وباستنهاض القيم الإنسانية الجميلة والدعوة اليها هذه مهمات الكتلة الثالثة ومن الضرورة اكتشاف البعض الذي يريد ان يسجن الامة في حدودها وقضاياها المتعددة وبؤجج فيها روح الانتقام والثأر فيحرمها من الإحساس بالمسئولية تجاه الغالبين من الشعوب.
التحرك على الصعد كلها معا هو سبيل النهضة ففي حين نحن بحاجة ماسة الى تفعيل ثرواتنا واسواقنا ومشاريعنا فنحن كذلك في أمس الحاجة الى تمثل المنهج القويم في تفعيل المفاهيم الخاصة والقيم الخاصة فهذا هو حاجة البشرية المعذبة.

كلمات دلالية

اخر الأخبار