أم حكيم .. والروايات الجنينية الأولى في الأدب الفلسطيني

تابعنا على:   22:32 2021-10-21

ناهـض زقـوت

أمد/ تهتم الشعوب في إبراز مكوناتها الثقافية والأدبية والحضارية والتراثية، لأنها جزء أساسي من بناء هويتها الوطنية. والشعب الفلسطيني مثل باقي الشعوب، بل أكثر من كل الشعوب اهتماماً في بلورة هويته الوطنية ومكوناتها الحضارية والثقافية. ولما تعرض له عام 1948 من نكبة شملت كل جوانب حياته، وبدلت استقراره إلى هجرة ومنافي، كان لدى الفلسطينيون إصرار وتحدي على اثبات هويتهم وجذورهم في المكان، أمام الرواية الزائفة التي يروجها العدو الاسرائيلي.
لذلك اهتم الكتاب ومؤرخو الأدب في البحث عن الجذور في التراث الثقافي – الأدبي الفلسطيني قبل عام النكبة، وكان مجال الرواية من أكثر الحقول الأدبية اهتماماً ودراسة، لما تحمله من فضاء أوسع في تناول الحياة الاجتماعية ومكوناتها، إذ ثمة 33 رواية نشرت قبل عام 1948، تحديداً منذ عام 1885م وحتى عام 1947م. لقد اعتبر النقاد ودارسو الأدب الفلسطيني أن رواية (الوارث) لخليل بيدس الصادرة سنة 1920م هي أول رواية فلسطينية، إلا أن ثمة روايات نشرت في منتصف القرن التاسع عشر تعتبر البدايات الروائية الأولى في الأدب الفلسطيني أمثال رواية (منتهى العجب في أكلة الذهب) لميخائيل جرجس عورا، وقد نشرت متسلسلة في جريدة الأهرام بالقاهرة سنة 1885م، ورواية (الجنون في حب مانون) أيضاً لميخائيل جرجس عورا، وقد نشرت في القاهرة سنة 1887م. ورواية (الدر النظيم في أم حكيم) لمحمد أحمد التميمي، والتي طبعت في مطبعة المقتطف في القاهرة سنة 1888م.
وقد ذكر محرر مجلة المقتطف في العدد الثامن من السنة الحادية عشرة في 1 مايو سنة 1887م، عن رواية "الجنون في حب مانون" مؤكداً أنها مؤلفة، وأنه قد قرأها وعلق عليها. كما ذكر أيضاً رواية "الدر النظيم في أم حكيم" لمحمد التميمي في العدد الرابع من السنة الثالثة عشرة في 1 يناير 1889م، مؤكداً على تأليفها، والاطلاع عليها.
إن ما جاء في المقتطف عن تلك الروايات يقطع الشك باليقين بصحة وجود هذه الروايات الثلاث التي تمثل البدايات الجنينية الأولى للرواية الفلسطينية، وبهذا نؤكد أن عمر الرواية الفلسطينية يزيد عن 135 سنة، مما يؤكد مقاربتها للرواية العربية في نشأتها، وفي بداياتها الأولى، حيث أكد باحثو الأدب والنقاد أن أول رواية عربية نشرت كانت رواية (وي إذن لست بإفرنجي) للكاتب اللبناني "خليل خوري" في سنة 1859م، وثمة من يشير إلى رواية (حسن العواقب) للكاتبة اللبنانية "زينب فواز" والتي نشرت في سنة 1899م، إلا أن رواية "ميخائيل جرجس عورا" قد سبقتها في النشر سنة 1885م، وبذلك تكون الرواية العربية الأولى، ولكننا نتفق مع الباحثين أن رواية خليل خوري هي الأولى في الأدب العربي، وقد صدرت في طبعة جديدة في القاهرة سنة 2007م عن منشورات دار الفارابي مزودة بالبحث والتدقيق حول ريادتها في مجال الكتابة الروائية.
لم تكن الرواية الفلسطينية الأولى بعيدة عن محيطها العربي، كما ذكرنا، فقد كان ثمة تأثير وتأثر بالآداب العربية وخاصة في مصر ولبنان، حيث نشرت فيهما أولى الروايات سواء المؤلفة أو المترجمة، ومن الطبيعي أن يتأثر كتاب فلسطين بكتاب هاتين الدولتين بحكم الصلات التي كانت قائمة بين فلسطين والبلدان العربية في زمن الحكم التركي، فقد كانت البلاد مفتوحة، والزيارات متبادلة.
وقد أشار العديد من مؤرخي الأدب إلى الأعمال الروائية الأولى، وتأثرها بمصر ولبنان، يقول الدكتور عبد الرحمن ياغي في كتابه "حياة الأدب الفلسطيني الحديث": "ومن الأخبار التي تبين نشأة هذا الفن (يقصد القصصي) في فلسطين في وقت لم يتأخر بزمن طويل عن نشأته في سائر البلاد الشقيقة، ما جاء في تاريخ الآداب العربية للأب لويس شيخو في ترجمة ميخائيل بن جرجس عورا ... مولود في عكا سنة 1855م ومات في نابلس (والصحيح أنه مات في روما)، ومن آثاره روايات مختلفة وقصائد قليلة. ولعل صلته ببيروت أن تكون قد هيأت له كذلك السير في هذا السبيل القصصية". أما عن محمد التميمي فقال: "ومن الأخبار المتناثرة عن حياة القصص في فلسطين خير ورد في ترجمة الشاعر محمد بن الشيخ أحمد التميمي، وأصله من الخليل، وهو مولود في سنة 1924م ... وهو أول من أبرز رواية بالعربية وسماها (أم حكيم)، ولعل صلته بمصر أن تكون قد يسرت له ولوج هذا الباب".
خلال اعدادي لموسوعة الرواية الفلسطينية قمت بالبحث عن هذه الروايات، ولكن لم يتم العثور على روايات ميخائيل جرجس عورا، رغم تواصلي مع عدد من الأصدقاء في مصر، ورغم أن بعض الأخبار الأدبية تقول أنه نشر روايته الأولى في القاهرة وتحديداً في جريدة الأهرام المصرية في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. إلا أنني لم أعثر إلا على ما جاء ذكره في جريدة المقتطف.
أما عن رواية محمد التميمي "أم حكيم"، فقد عثرت على مقال للشاعر عز الدين المناصرة في محاولاته للبحث عن هذه الرواية، يقول: "كنت قد قرأت إشارات عن (محمد أحمد التميمي) في (معجم المؤلفين- الجزء السابع- ص243) لعمر رضا كحالة، وفي كتاب (حياة الأدب الفلسطيني، 1968) لعبدالرحمن ياغي، لكن هذه الإشارات هي مجرد إشارات عابرة. وقررت البحث عن (رواية أم حكيم) لمحمد أحمد التميمي بمصر. وزرت دار الكتب المصرية، ولكن دون جدوى".
وأثناء بحثي في الانترنت وجدت مقالاً للأستاذ الشيخ المؤرخ عبد الوهاب النجار (1862- 1941) بعنوان (جندي الأدب المجهول) يتحدث فيه عن الأديب الشيخ محمد أحمد التميمي، وكان الشيخ عبد الوهاب على اتصال وثيق بأوساط الأدباء، وكانت ملكة التاريخ لديه تدفعه الى كتابة تاريخ بعض الأدباء الذين لم يؤرخ لهم أحد غيره، وكان ينشر مقالاته في صحيفة الرسالة، وقد نشر مقاله عن الشيخ التميمي في العدد (108) من مجلة الرسالة ص14-17، بتاريخ 29/7/1935م.
وقد اطلعنا على المقال كاملاً في جريدة الرسالة، ومما كتبه عبد الوهاب النجار عن محمد التميمي قائلاً: "أقول جندي فقط لأنه لم يكن ضابطاً كريماً ولا ضابطاً عظيماً ولا ضابطاً صغيراً، بل كان جندياً. وكفى. والذي أتحدث إلى حضرات الأدباء عنه، أعتقد أن أحداً منهم لا يعرف عنه شيئاً. وهو المرحوم الشيخ المعمر (محمد أفندي التميمي بن المرحوم أحمد التميمي مفتي الديار المصرية). وكان والده المرحوم الشيخ أحمد التميمي من أهل (مدينة الخليل بفلسطين) ومن علمائها ومن ذرية تميم الداري. وقد أتى به إلى الديار المصرية ساكن الجنان إبراهيم باشا، جد مولانا الملك فؤاد، وعين مفتياً للديار المصرية. مات المرحوم الشيخ أحمد التميمي عن ولديه عبد الرحمن أفندي، ومحمد أفندي؛ فأما عبد الرحمن فأسرع في تركة والده إسراعاً شديداً، فأنشأ له ذهبية في النيل وجعل مقابض مداريها من الذهب، والجزء الذي يغرز في الطين من الفضة، وجعل نعال خيله من الفضة!. وكان أخوه محمد لا يعصي له أمراً، فكلما أراد بيع عمارة أو بيت، أمضى محمد مع أخيه عبد الرحمن واعترف بقبض ثمن حصته، وهو في الواقع لا يناله من ذلك سوى النزر اليسير. فلما فرغت الراحة عمد محمد أفندي إلى اسطنبول ليجد واسطة من أصدقاء والده ليعين في وظيفة. ولست أعلم إن كان أخوه عبد الرحمن أفندي سافر إلى اسطنبول أولاً، وآخر عهدي بعبد الرحمن أفندي أنه كان مأمور مركز؛ وكانت له ورشة نجارة بطنطا، لأنه أتقن فن النجارة أيام أن كان مهيمناً على عمارات والده. أما محمد أفندي (وهو أديبنا المجهول)، عين موظفاً بتفتيش (السنطة والهياتم) التابع لدائرة ثالثة زوجات المرحوم إسماعيل باشا، ثم ناظرا لورشة التصليحات التي أنشأها المرحوم إسماعيل باشا لإصلاح الآلات الميكانيكية في سنة 1270هـ (1853م).
وفي أيام اختفاء (عبدالله أفندي النديم) بالقرشية عند المرحوم أحمد باشا المنشاوي، وكان يسمي نفسه السيد علي الإدريسي اليمني، كان النديم يجالسه كل ليلة ولا يدري حقيقته. وكان المجلس يمتد بهما إلى ما بعد نصف الليل. ففي ليلة سأل المنشاوي باشا جليسيه عن أرباب الجرائد، فكان عبد الله النديم يسرع ويجيب ويسبق التميمي إلى الجواب، فقال المنشاوي باشا وما تقولان في صاحب الطائف؟ فسكت (النديم أو السيد علي الإدريسي اليمنى) وتكلم التميمي، وقد رابه شأن النديم، ولم يقم من المجلس إلا وهو موقن بأن جليسه في هذه السنوات هو (عبدالله النديم).
وللتميمي قصائد لا أحفظها ولا أجد من يقفني عليها الآن؛ وهو أول من أبرز (رواية) بالعربية وسماها (أم حكيم)، وقد مضى على إبرازها (أكثر من خمسين سنة).
وقولي إنه معمر سببه أن التميمي كان قد تولى عمارة مسجد وضريح سيدي فخرالدين ببلدة (طوخ مزيد) في عهد المرحوم إسماعيل باشا، وكانت العمارة ينفق عليها من دائرة ثالثة أزواج الخديو إسماعيل، وأحيلت الكتابة على والدي رحمه الله وكانا قريبين في العمر. وكنت إذا سألت كلا منهما عن الأسنّ منهما اتهم كل منهما الآخر بأنه أسن منه، وقد توفي والدي سنة (1919) عن نحو مائة سنة، وعاش (محمد أفندي التميمي) بعده من أربع إلى خمس سنوات، واعتقادي انه أربى على المائة. فهذا الرجل في نظري هو جندي الأدب المجهول.
هذا ما كتبه عبد الوهاب النجار الذي كان المرحوم محمد التميمي صديق والده، وأكد صدور روايته "أم حكيم" ونشرها قبل خمسين عاماً من كتابته للمقال. وبقيت هذه الرواية مجهول دون أن يطلع عليها أحد أو يعرف مكانها، إلى أن قام المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة في عام 2009م بنشر الرواية ضمن سلسلة تراث الرواية العربية رقم (5)، من تقديم الكاتب المصري محمد سيد عبد التواب.

كلمات دلالية

اخر الأخبار