الفجوة بين السلطة والمجتمع المدني في فلسطين

تابعنا على:   16:50 2021-08-09

فادي أبو بكر

أمد/ إن الأصل في العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني أن تكون تكاملية، وليست علاقة تعارض وصراع، حيث أن الاختلاف يكون في التكوين والأدوار،التي تستوجب تحقيق قدر من التوازن والإستمرار للمجتمع.

ويضطّلع المجتمع المدني بدور حيوي في ضبط الديمقراطية ومساعدة الدولة على بلورة وتحديد معالم المصالح العليا للشعوب. ولهذا فإنها تتمتّع بالاستقلالية النسبية عن الدولة، فالدولة هي التي تمنح المجتمع المدني الحق في الوجود، والمجتمع المدني يقدم التدخلات اللازمة للخير العام عبر النقاش والتدبر والتفاوض والنقد إذا انحرفت عن الطريق.

فلسطينياً، فإن المنشأ الطبيعي  لأدوار مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني، أن تتركّز على  تعزيز الديمقراطية والتنمية المحلية، في مقابل تعزيز دور المنظومة الرسمية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وتدعيم المشروع الوطني الفلسطيني. وعلى السلطة أن تمنح فضاء الحرية اللازم لضمان تسهيل مهام مؤسسات المجتمع المدني، بما لا يضر أو يخرج عن المصالح الوطنية العليا.

إلا أن حال العلاقة بين السلطة والمجتمع المدني في فلسطين يُظهر واقعاً مرّاً، نظراً للفجوة الآخذة في الاتّساع بإطّراد دون آفاق لردمها،  وقد أدخلت قضية وفاة الناشط نزار بنات خلال اعتقاله من قبل الأجهزة الأمنية يوم 24 حزيران/ يونيو 2021، العلاقة بينهما إلى منعطف خطير يتطلب الشروع بمعالجات فورية وعاجلة قبل فوات الأوان.

ولتشخيص أدق لإشكالية العلاقة بين الطرفين،تُفنّد هذه الورقة طبيعة الإشكالات التي تعتري كل من السلطة والمجتمع المدني في فلسطين، وكيفية استغلالها من قبل الاحتلال الإسرائيلي وأعداء الشعب الفلسطيني، في سبيل تحديد خارطة الطريق الأنسب للخروج من هذه المعضلة.

إشكاليات سلطوية

لا بدّ من الإشارة إلى أن الهوّة بين السلطة والمجتمع المدني بدأت تتّسع بشكل ملحوظ منذ الانقسام الفلسطيني  في صيف عام 2007، ولم تكن قضية نزار بنات سوى عامل إضافي سلبي على العلاقة بين الطرفين. حيث ساهم الانقسام، وغياب الدور الرقابي للمجلس التشريعي، في تقليص الحيّز المتاح لمؤسسات المجتمع المدني، من خلال تدخل السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وسلطة الأمر الواقع في قطاع غزة، في عملها وعرقلته من إغلاق المؤسسات لأسباب حزبية وسياسية،  والتدخل في انتخاباتها الداخلية، واختيار أعضاء مجالس إدارتها، وحتى في طبيعة البرامج والأنشطة التي تقدّمها.

وما زالت مؤسسات المجتمع المدني تواجه المزيد من القيود القانونية والإدارية على عملها وتمويلها، سواء في الضفة أو غزة، بما يضعف أدائها ويحدّ من إمكانيتها في تقديم الخدمات للشباب وتنفيذ برامجها وأنشطتها المختلفة ذات الصلة.

وعليه، يمكن الجزم بأن الانقسام الداخلي الفلسطيني يعتبر أحد الأسباب المحورية لانتهاك حريات المجتمع المدني المختلفة، وبالتالي تأزم العلاقة بين السلطة والمجتمع المدني ، ويبقى هو المعضلة الاستراتيجية التي بإزالتها يمكن جسر أي هوّة أو فجوة ثانوية.

إشكاليات تعتري مؤسسات المجتمع المدني 

بالرغم من الدور الإيجابي لبعض مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية وبرامجها، خاصة في مجال تمكين الشباب وتنمية قدراتهم ومهاراتهم ، وتفعيل دورهم المجتمعي، إلا أن اهتمامها بالعمل الوطني العام تراجع، وبالتالي كانت مساهمتها في تنمية الهوية الوطنية للشباب الفلسطيني محدودة.

ومن ناحية أخرى، نجد بعض مؤسسات المجتمع المدني باتت تسعى للولوج لعالم السياسة، وتدافع عن أجندات خارجية ممّولة، لتمنح نفسها مكانة متميزة سياسياً واجتماعياً، متناسية الدور الأساس المنوط بها فيما يخص التداول والنقاش والمشاركة لما فيه الصالح العام.

 وبالعودة إلى قضية نزار بنات، فإن الخطوة التي  أقدمت عليها عدد من مؤسسات المجتمع المدني ( مؤسسات حقوقية) بتقديم إحاطة للمفوض السامي لحقوق الإنسان بشأن اعتداءات الأجهزة الأمنية في السلطة على المتظاهرين المنددين بـ "تصفية بنات"،  ودعوته فيها لاتخاذ موقف إزاء السلطة، لهي خطوة سلبية غير عقلانية، من شأنها تأزيم الحالة، وجرّها إلى مربعات أخرى لا تخدم مصلحة الشعب الفلسطيني.

المعضلة الفلسطينية بعيون إسرائيلية ودولية

تُحتّم خصوصية الحالة الفلسطينية على مؤسسات المجتمع المدني الاضطّلاع بأدوار تحمي مصالح العامّة، ليس فقط ممّا يرونه طغياناً داخلياً، وإنما من الاحتلال الإسرائيلي وأعداء الشعب الفلسطيني. وهذه الخطوة المتمثلة في شكوى السلطة لجهات أممية، لن يتم استغلالها إسرائيلياً فحسب، بل من قبل عدد من أعضاء المجتمع الدولي الذين سيعملون على فرض أنفسهم وأجنداتهم على السلطة الفلسطينية ، في مقابل حصوله على الفرصة الذهبية لتمديد فترة عجزهم عن مسائلة ومحاسبة الاحتلال الإسرائيلي!.

ولعلّ حجم التفاعل الدولي السلبي إزاء السلطة الفلسطينية، وإثارة ملف حقوق الإنسان مع السلطة الفلسطينية دونما يتم تحريك ساكن إزاء الاحتلال الإسرائيلي لهو أمر خطير، وإستمرار هذه الخطوات غير العقلانية من شأنها أن تُسهّل المحاولات الغربية في إعادة تصنيع الاستشراق والترويج لفكرة مفادها بأن الهوية الإسرائيلية والأميركية والغربية متفوقة على الشعوب والثقافات الأخرى وتحديداً العربية والفلسطينية، وأن الفلسطينيين غير قادرين  على حكم أنفسهم، وبحاجة لم يحكمهم.

يبني الاحتلال الإسرائيلي على الفجوة المتسعة بين السلطة ومؤسسات المجتمع المدني، ويستثمر بها، ويجنّد كل طاقاتها وعملاءه من أجل استمرارية نشر وابل من الأخبار الزائفة، كآلية لصناعة الأزمات والتضليل لخدمة الهدف الإسرائيلي العام "فرّق تسد".

ومع اتّساع الهوة بين الطرفين، يتّسع نطاق الانتهاكات الإسرائيلية  تجاههما، فبينما تعاني السلطة من ضغوطات هائلة فيما يخص ملف رواتب الأسرى والشهداء والجرحى، وتستمر القرصنة الإسرائيلية لأموال خزينتها العامة، تراجع دعم المانحين لمنظمات المجتمع المدني الفلسطيني بشكل حادّ، كنتيجة مباشرة للضغوط الإسرائيلية والأميركية، إضافة إلى إغلاق سلطات الاحتلال لعدد من هذه المؤسسات الواقعة في مناطق السيطرة الفلسطينية "أ" المسجّلة لدى وزارة الداخلية الفلسطينية، والعاملة بموجب القانون الفلسطيني، وملاحقة موظفيها، مثل اتحاد لجان العمل الصحي، واتحاد لجان العمل الزراعي و الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال.

ويأتي هذا الاستهداف ضمن سياسة إسرائيلية ممنهجة، تتمثل أحد أبرز أهدافها في شرذمة العلاقة بين السلطة والمجتمع المدني، و إضعاف النخبة الفلسطينية، وضرب المؤسسات الوطنية وربطها بما يسمى "الإدارة المدنية ".

خاتمة

إن أي اتّساع للفجوة بين السلطة والمجتمع المدني، سيكون دوماً على حساب القدرة على إنضاج التجربة الديمقراطية الفلسطينية وتطويرها ومراقبتها، وعلى حساب الجبهة النضالية الفلسطينية الداخلية، الأمر الذي من شأنه وجوباً أن ينعكس سلباً على طريقة إدارة الصراع مع الاحتلال.

وفي ضوء ما سبق، فإن المطلوب اليوم فتح صفحة جديدة بين السلطة والمجتمع المدني، بحيث يتم إعادة تنظيم العلاقة بينهما، وتعزيز الروابط المشتركة، وتفعيل كل الأدوات التي من شأنها تعزيز وترسيخ دعائم الديمقراطية الفلسطينية  والمشروع الوطني في آن.

إن الحالة الراهنة، تستدعي إجراء حوارات عقلانية، تُفتح فيها كل ما له علاقة من ترسبات ماضية، بما يضمن أن ينهي كل ما من شأنه أن يخدم الاحتلال الإسرائيلي الذي يرغب باستمرار هذه الحالة من التوتر والاحتقان الداخلي.

ولا يمكن أن تصل الحوارات  إلى شيء ملموس دون عمل مراجعات ذاتية جدّية من قبل الطرفين، يتم من خلالها تجاوز الإشكالات التي تعتريهما. وإلى حين مد جسر تواصل متين جديد بين السلطة والمجتمع المدني، تبقى المعضلة الكبرى المتمثلة في الانقسام الفلسطيني الداخلي على حالها إلى حين جسرها يوماً ما.

كلمات دلالية

اخر الأخبار