الانتخابات الأمريكية.. وصناعة الصدمة

تابعنا على:   17:41 2020-11-09

ياسر عبدالعزيز

أمد/ لا تتوقف الولايات المتحدة منذ بزغت على مسرح الأحداث العالمى كقوة عظمى مكتملة الأركان عن إدهاشنا وإلهامنا، وهى اليوم تضيف إلى ذلك عنصراً جديداً؛ إذ تصيبنا أيضاً بالصدمات.

منذ صعد الرئيس ترامب إلى خشبة المسرح الأمريكية والعالمية، بدأنا فى معاينة أنماط أداء سياسية مدهشة وصادمة فى آن واحد، وحين بدأت الاستعدادات للانتخابات الرئاسية 2020، شهدنا تغيرات فارقة فى المشهدين الانتخابى والسياسى الأمريكيين، وراحت انطباعات كثيرة تتزعزع، وأفكار راسخة تتغير عن طبيعة هذا المجال السياسى وسوية أداء الفاعلين فيه.

هل كان الرئيس الأمريكى يدخل عداءً مفتوحاً واسعاً مع معظم المؤسسات الإعلامية الجماهيرية البارزة فى البلاد؟ هل كانت اتهامات جدّية بالتزوير تكتنف العملية الانتخابية؟ هل كانت التوقّعات بإمكانية وقوع حرب أهلية مطروحة؟ هل كان الحديث عن احتمالات وقوع أحداث شغب وعنف على هامش المشهد الانتخابى مستساغاً؟ هل هيمنت الشكوك على أداء السلطات السياسية والأمنية والانتخابية مثلما يحدث اليوم؟ هل سبق أن شكك أحد فى تقبّل الرئيس المهزوم للهزيمة وتسليمه السلطة بسلاسة، امتثالاً للتقاليد والأعراف والقوانين؟ هل فكر البعض فى إمكانية تغيير الدستور الأمريكى والأعراف السياسية المستقرة فى شأن مُدد الولاية الرئاسية قبل أن يُلمح ترامب إلى ذلك؟

لم يكن هذا قابلاً للطرح ولا مستساغاً للتفكير فيه قبل أن يصل ترامب إلى البيت الأبيض ويمكث فيه أربع سنوات ويُخلف كل هذا الجدل، ويصنع كل هذا التغيير، ويُبقى العالم غارقاً فى الغموض والشك ومزعزع اليقين حيال ما ستؤول إليه الأوضاع حين يتم الإعلان عن نتائج السباق المحتدم، وتتم تسمية الرئيس الجديد.

لقد كشف ترامب عن هشاشة كبيرة تعترى الأنموذج السياسى الأمريكى، وقد عرفنا أن تلك الهشاشة لا تتعلق فقط بما يجرى فى العاصمة واشنطن من مشاحنات وصراعات بين السياسيين، لكنها تمتد لتضرب بطاقة تأثير كبيرة فى أعماق البلاد.

من بين أكثر ما يدعو إلى الدهشة فى مسيرة ترامب الرئاسية والانتخابية ميله الواضح واستخدامه المغرض للتصورات الدينية فى مسار العملية السياسية؛ وهو أمر يكتسب أهمية فائقة ويستدعى مخاطر كارثية حين ندرك أن هذا الاستخدام يتناغم مع أفكار ومواقف رائجة بين أوساط الناخبين.

لا يعبّر ترامب فى أدائه السياسى المتوسل بالتصورات الدينية المثيرة للجدل عن نفسه فقط، ولا يعكس هذا الأداء مواقف وتصورات بعض الجمهوريين وأنصار اليمين المحافظ فقط، لكنه أيضاً يترجم مواقف ومدركات قطاع واسع من الناخبين المنتشرين فى كثير الولايات، ويحظى فى كثير من الأحيان بدعمهم وتأييدهم المطلقين.

فى الأسبوع الماضي، تداول نشطاء على مواقع «السوشيال ميديا» فيديو مثيراً للاهتمام؛ وهو الفيديو الذى يظهر مستشارة الرئيس للشئون الروحية بولا وايت - كاين، وهى تصلى فى محفل انتخابى دعائى، داعية الله أن «ينصر ترامب على أعدائه».

بعض من شاهد هذا الفيديو أُصيب بذهول، خصوصاً عندما راحت كاين تصرخ بحماس: «أسمع صوت النصر».. «أسمع صوت النصر»، وتكرر تلك العبارة مرات ومرات، داعية الملائكة لمساعدة رئيسها.

كان هذا عرضاً أمريكياً يمكن أن نشاهد مثيلاً له فى مجتمعات أقل وعياً وتنمية وازدهاراً، تعتبرها واشنطن بلداناً من العالم الثالث الغارق فى أمراض الجهل والتخلف. كان هذا عرضاً يمكن أن نشاهد مثيلاً له فى إحدى مدن منطقة الشرق الأوسط الأقل نمواً، أو فى ولاية هندية غارقة فى المشاحنات الطائفية، أو فى قرية من قرى بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، لكن أن يحدث هذا فى الولايات المتحدة، فهو أمر يبعث بلا شك على الدهشة، ويفرض علينا إعادة التفكير فى الوضع الذى باتت عليه تلك الدولة.

من بين ما دعت إليه كاين فى صلاتها الدعائية هذه أن «يحمى الله الرئيس من المؤامرات الشيطانية والأجندات الشيطانية وكل روح شيطانية».. هى قالت ذلك، بينما تتحرك يداها وقدماها فى حركات منتظمة، وتضرب بقبضتها فى الهواء، كأنما تجلد الشياطين.

لا يمكن الانطلاق من حادثة مفردة والذهاب إلى تحليل متماسك ورصين يقضى بأن الولايات المتحدة فى أزمة تخلط فيها قطاعات من النخبة السياسية المؤثرة بين السياسة والدين خلطاً مشيناً، لكن ما يُكسب تلك الواقعة أهميتها ومكانتها فى هذا السياق أنها تعبّر عن اتجاه وتيار وتحظى بمؤيدين، استطاعوا أن يصلبوا موقف ترامب، ويبقوا حظوظه قائمة حتى اللحظات الأخيرة من فرز أصوات الناخبين.

لقد أتى ترامب بالدين إلى المشهد السياسى مبكراً جداً؛ إذ حدث ذلك عشية انتخابه رئيساً فى 2016، عندما استبق ذهاب الناخبين إلى الصناديق بتصريح أدلى به لإحدى المحطات الفضائية الدينية، قائلاً: «أتوقع دعم المسيحيين الإنجيليين، فأنا محافظ وجمهورى، وأنا أكثر من خدم المسيحية والمسيحيين».

ثم حدث ذلك لاحقاً، حين ردّد بعض أنصاره أقوالاً ربطت بين سياساته الشرق أوسطية، ومحاولاته لإنجاز «صفقة قرن» تاريخية لتسوية الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى من جانب، وبين بعض الدعاوى الدينية من جانب آخر.

وعندما احتدم الصراع الانتخابى مع المعسكر الديمقراطى عشية الانتخابات الحالية، وثارت موجة احتجاجات عارمة ضد سيد البيت الأبيض على خلفية مقتل الأمريكى الأسود جورج فلويد على أيدى رجال الشرطة، أرسى ترامب معالم فصل جديد من فصول تلك العلاقة الملتبسة والخلط المسىء بين السياسى والدينى، إذ توجّه فى ظل الاحتجاجات العنيفة التى اجتاحت مدناً أمريكية عدة، إلى كنيسة فى مواجهة البيت الأبيض، ووقف أمام عدسات المصورين، حاملاً «الكتاب المقدس»، فقط ليتم تصويره، ولتصل رسالة إلى ناخبيه ومن ورائهم خصومه والعالم أجمع.

وكأى حاكم مستبد، فى بلد من بلدان العالم الثالث، يخلط فيه القادة بين الدين والسياسة، ليُحققوا أغراضاً سياسية، مستغلين عواطف جمهور من المتدينين البسطاء، ومتلاعبين بمشاعرهم، لصرف النظر عن الخلل فى الأداء السياسى والقصور فى إدارة شئون البلاد، وقف ترامب متوسلاً بالدين، وضارباً بقرنين من التطور السياسى العقلانى واختبار أنماط الحكم الرشيد عرض الحائط.

لا تتوقف الولايات المتحدة عن إدهاشنا وإلهامنا، وبينما هى تفعل ذلك لا تتورع عن إصابتنا بالصدمة، وعن حملنا على طرح تساؤلات جديدة عن متانة هذا البناء السياسى والقانونى والدستورى والحضارى، وعن مدى قابليته للانتكاس.

عن الوطن المصرية

اخر الأخبار