فلسفة إستعباد الذات

تابعنا على:   13:55 2019-08-03

عمر حلمي الغول

كتب مفكرون، وأعلن قادة تاريخيون من مختلف الثقافات والإنتماءات البشرية عن العلاقة التبادلية بين الحرية والإنسان، ومنهم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي قال مقولته الشهيرة: "متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أنمهاتهم أحراراً"، وجميعهم تحدثوا عن معادلة الحرية والعبودية، وأكدوا، أن الإنسان ولد حراً وسيدا، ولا يمكن إنتزاع حريته المتأصلة في الذات الإنسانية، إلآ إذا قبل شرط العبودية، وطوع ذاته وفق معايير وقوانين وسياسات الحاكم. ومن الشروط الذاتوية في الزمان والمكان المحدد، التي أصلت للعبودية بين شعب من الشعوب: عصا الحاكم الغليظة، أو خداعه وتضليله للشعب؛ الرضى عن الحاكم على حساب الحرية الذاتية والجمعية؛ البحث عن "الأنا"، التخلي عن "النحن"؛ الهزيمة الداخلية؛ تفريغ الجبن والإستعباد في اللجوء إلى الله والسحر والشعوذة، والرياضة، والإنخراط في الصراعات البينية التفصيلية؛ الفقر والعوز؛ وإنتفاء عامل الوحدة؛ وغياب الأداة المؤهلة والقادرة على رفع راية حرية وسيادة الشعب، وتحدي الحاكم الجائر؛ فضلا عن الشروط الموضوعية المساعدة على تسيد الحكام المتناقضين مع مصالح شعوبها.

وإذا كانت العبودية مدانة ومرفوضة مع الحكام الجائرين، ويتم دعوة الشعوب إلى الثورة على الذات والأنظمة القاهرة لحريتها وكرمتها الإنسانية، وإستعادة مكانتها ودورها المسلوب والمنتهك من قبل السلطان الجائر، وإعادة تصويب بناء العقد الإجتماعي، فكيف الحال مع الإستعمار الإسرائيلي الإحلالي والإجلائي، والمغتصب لكل مناحي الحياة، الذي يرفع راية رواية مزورة، وغارق في سراديب ومستنقعات الإسطورة الميثالوجية الغريبة عن الواقع، والمتناقضة مع روح وسمات العصر الإنساني، ومع واقع وتطور الشعب العربي الفلسطيني المتجذر في ارض وطنه الأم؟ أتستقيم مع هذا العدو الخطير فلسفة إستعباد الذات، و"أسرلتها" طوعا، ونفي الحق التاريخي، والهوية القومية بإسم ، وتحت عناوين متهافتة، وفاقدة أهليتها القيمية، وبعدها الإنساني الصرف، والتي تعكس بؤس مروجيها ودعاتها. 

ما دفعني لتسليط الضوء على فلسفة إستعباد الذات، وتطويعها، وتفصيلها على مقاس الحكم الإستعماري الإسرائيلي، هو وجود إتجاه فلسطيني من ابناء الشعب حملة الجنسية الإسرائيلية، والعاملون في مؤسسات الدولة الإستعمارية، ينادي دون حرج، ودون أدنى حياء مما يتلفظ به هذا الإنسان أو ذاك ب"ضرورة طمأنة الإسرائيلي المستعمر على مستقبله"، و"التخلي عن القومية العربية، لإن اليهودي الصهيوني يخشى ذلك"، وبالتالي "علينا الإلتزام بمفوم قيمي جديد، عنوانه تبني قيم الأخلاق، وقبول الآخر، والعمل على إستيعاب خشيته ومحاذيره". ( وكأن الشعب العربي الفلسطيني رافض القبول بالآخر!؟ وهذا تزوير وإفتراء على الواقع)، أضف لذلك يدعي اصحاب هذا التيار المرفوض، أن الفلسطيني في الجليل والمثلث والنقب والساحل بات يفكر بالطريقة الإسرائيلية، حتى وإن كابر البعض، ويتعامل مع مصالحه وفق المعايير والمحددات الإسرائيلية القائمة. ويرى اصحاب هذا التيار، ان الإسرائيليين باتوا يقبلون بينهم وبين انفسهم الفلسطيني، ولكنهم يريدوا منه (الفلسطيني) ان يقدم اوراق حسن سير وسلوك؟! 

مما لا شك فيه، ان الإنسان، مطلق إنسان، هو نتاج الواقع الإجتماعي والإقتصادي المعطي، الذي يعيش بين ظهرانيه، يؤثر ويتأثر به. ولكن هذا الإستخلاص العلمي يستقيم مع عملية التطور الإجتماعية الطبيعية، وليس في واقع مفتعل ومركب على ركائز المشروع الصهيوني الكولونيالي، والمشروع الإستعماري الغربي الرأسمالي الأصلي، ولا يخضع ويعيش تحت واقع إستعماري من طراز خرافي وبشع يستهدف كينونة وهوية وشخصية ومصالح الإنسان ذاته، ومصالح شعبه، ليس هذا فحسب، بل ان الدولة الإستعمارية القائمة تعمل على إستئصال جذوره، وحملت رواية متناقضة 360 درجة مع روايته الأم. والأنكي، ان المستعمر يرفض القبول بالإنسان الفلسطيني، ويعمل على إمتهانه وسحق وجوده عبر تعميق مظاهر العنصرية والفاشية، ولا يمنح الفلسطيني الحد الأدنى من الحقوق السياسية والإجتماعية والقانونية والثقافية والدينية والديمغرافية، ويسعى إلى طرده بكل الوسائل والسبل الأمنية والعسكرية والإجتماعية والإقتصادية. وبالتالي الأجدر بأن يطلب الفلسطيني ما يطمئنه من الإسرائيلي على بقائه، وعلى إستعداده لبناء جسور السلام والمساواة، وضمان العدالة الإجتماعية، ونزع أظافر العنصرية الصهيونية، والتخلي عن الرواية المزورة، وإن حاول الإنسان أن يكون وسطيا، ومهادنا، يمكن مطالبة الصهيوني الإسرائيلي، إيجاد مقاربة واقعية بين روايته الكاذبة والمزورة، وبين رواية صاحب الأرض، الشعب العربي الفلسطيني، المتمسك بالسلام، وقبل، ويقبل التعايش على ارضية مبادىء مبادرة السلام العربية وفق أولوياتها، وإستنادا لقرارات ومواثيق ومعاهدات الأمم المتحدة ذات الصلة ومرجعيات عملية السلام. 

وعليه فإن مطلق صراع لا يطلب من إنسان ما التخلي عن قوميته، فإليهودي الصهيوني، القادم من إثنيات وأعراق مختلفة يدعي انه إبن "القومية اليهودية" (ولا يوجد في اي معادل إنساني فكري أو قانوني أو سياسي ما يمكن إعتبار اتباع الديانة اليهودية شعبا أو قومية إلآ عند اليهود الصهاينة، والإفنجليكان "البروتستانت"، والمسيحية الصهيونية عموما)، ويتمسك بها، وهو يعلم علم اليقين، انه يتاجر بذلك، وان ما يسمى "القومية اليهودية" ليست سوى كذبة كبيرة، فما بال الفلسطيني العربي؟ اليس من حقه ان يدافع عن إنتمائه وهويته وشخصيته، التي بنى ملامحها على مدار حقب التاريخ، والتي تجسدت في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بشكل أوضح؟ وهل كل من نادى بالقومية، هو شوفيني ومتطرف؟ إليس هناك تيارات داخل المدارس القومية المختلفة؟ الآ يوجد التيار الديمقراطي والليبرالي والقومي الوسطي، والوطني القومي؟ لماذا التخلي طوعا عن حق إكتسبه الإنسان طيلة مراحل تاريخية عديدة، وبنى هويته إرتباطا بلغته وعاداته وتراثه وموروثه الإجتماعي والإقتصادي والثقافي؟ أين هي المصلحة الخاصة او العامة سوى تطويع الذات على مقاس المستعمر الإسرائيلي؟ امن خلال هذة الفلسفة المبتذلة والهابطة والمنسحقة والذليلة يمكن بناء السلام والمساواة؟ ان هكذا فلسفة عدو حقيقي للسلام، ووصفة سحرية لتعبيد الطريق أمام تسيد الرواية الصهيونية، وسحق الرواية الأصلية، رواية الشعب العربي الفلسطيني. 

يا حبذا لو يتوقف دعاة فلسفة التطويع، والتماهي مع منطق العبودية للمستعمر كليا عن ترويج بضاعتهم الخطيرة، والمتناقضة مع مصالح شعبنا، وتسيء لكفاح ونضال الشعب العربي الفلسطيني وقيادته الشرعية المتمسكة بخيار السلام على اسس الحل الواقعي والممكن والمقبول، والمستند لمرجعيات السلام المذكورة سابقا.           

كلمات دلالية

اخر الأخبار