تل أبيب: تجاهل رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، إيال زامير، موقف المدعية العامة العسكرية الإسرائيلية، يِفعات تومِر – يِروشالمي، التي حذّرت من عدم قانونية إخلاء سكان مدينة غزة نحو جنوبي القطاع، في ظل الظروف الإنسانية القائمة؛ وأصدر أوامره للجيش ببدء إخلاء السكان تحت القصف والهجمات، خلافا للتوصية القانونية.
جاء ذلك بحسب ما أوردت صحيفة "هآرتس"، يوم الأربعاء، علما بأن جيش الاحتلال كان قد أصدر ، الثلاثاء، إنذار إخلاء لجميع سكان مدينة غزة وأحيائها وذلك لأول مرة منذ الإعلان عن الخطة العسكرية التي تستهدف احتلال المدينة وتدميرها، رغم أن المدعية العامة العسكرية شددت على أنّه "لا يمكن إصدار أوامر الإخلاء قبل توفير الشروط اللازمة لاستيعاب السكان".
ووفق التقرير، عقد زامير قبل أيام جلسة مع قائد المنطقة الجنوبية، يانيف عاسور، ومنسّق أعمال الحكومة في المناطق المحتلة، غسان عليان، دون حضور المدعية العسكرية، واتُخذ القرار بإصدار أوامر الإخلاء لجميع سكان غزة، البالغ عددهم نحو 1.2 مليون شخص، بينهم 700 ألف مقيم دائم ونحو نصف مليون نازح لجؤوا إلى المدينة منذ اندلاع الحرب.
والمدعية العامة العسكرية، المسؤولة عن تفسير القانون الدولي داخل الجيش، كانت قد أبلغت قيادة الأركان أنّ "ما طُرح من خطط لا ينسجم مع متطلبات القانون الدولي"، وأشارت إلى أنّها لم تتلقَّ الوثيقة المفصلة التي طلبت إعدادها حول الأوضاع الإنسانية والبنى التحتية في الجنوب. وأكدت أنّ غياب مثل هذا التقييم يمنع مواجهة الانتقادات الدولية المتوقعة حول قانونية الإخلاء.
مصادر مطلعة على مداولات الأسبوع الماضي، بمشاركة زامير والمدعية العسكرية وضباط كبار، ذكرت أنّ قادة الجيش قدّموا صورة "غير واقعية" للوضع الإنساني في الجنوب. وقال مسؤول أمني إنّ "الواقع صُوّر بطريقة مختلقة ودون عمل جاد، والجميع يدرك أنّ الأوضاع لا تسمح ببدء الإخلاء". وأوضحت المصادر أنّ الخرائط التي عُرضت كانت غير دقيقة وأظهرت مناطق مكتظة كساحات بديلة لاستقبال السكان.
وقال مسؤولون كبار في الجيش الإسرائيلي إنه لم يسبق لهم التعامل مع حالة تجاهل فيها رئيس الأركان موقف المدعية العامة العسكرية في مسألة "بهذا القدر من الأهمية". وبحسب ما نقلته مصادر تحدثت لصحيفة "هآرتس"، فإن المعطيات التي عرضها قادة الجيش في النقاشات حول الأوضاع في جنوب قطاع غزة كانت "جزئية وسطحية"، واعتمدت على خرائط غير واضحة، جرى فيها تمييز مناطق مكتظة بالسكان حتى أقصى حد كمواقع يُفترض أن تستوعب نازحين إضافيين.
كما أظهرت الحسابات في قيادة الجنوب ووحدة منسق أعمال الحكومة أنّ المساحة المخصّصة لكل فرد لا تتجاوز سبعة أمتار مربعة، وهي أقل بكثير من المعايير التي يفرضها القانون الدولي. وأعلن الجيش نيته إدخال مئة ألف خيمة إلى القطاع، لكن مصادر متابعة أوضحت أنّ ما يُدخل فعليًا ليس سوى أغطية بلاستيكية وليست خيامًا مغلقة تصلح لظروف الشتاء.
وبحسب تلك المصادر، فإنّ المستشفيات في جنوب القطاع تقف على حافة الانهيار وغير قادرة على استقبال مزيد من الجرحى، في ظل الاكتظاظ الحاد. وحذّروا من أنّ نقل نحو مليون إنسان إلى هذه المناطق دون خدمات طبية كافية قد يؤدي إلى "كارثة إنسانية" تثير انتقادات دولية وربما عقوبات من دول داعمة لإسرائيل.
ويوم الخميس الماضي، بعثت المدعية العامة العسكرية رسالة مباشرة إلى زامير شددت فيها على أنّ الجيش "غير مستعد لإخلاء المدينة"، وأشارت إلى اعتراضات شديدة من الصليب الأحمر والأمم المتحدة ومنظمات إغاثة أخرى على الأوضاع جنوبي القطاع. وذكرت أنّ قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية أيّد هذه التحذيرات، معتبرًا أنّ انتقادات المجتمع الدولي لم تأت من فراغ.
وبحسب ما نقلته "هآرتس"، فقد شددت المدعية العسكرية على ضرورة تأجيل توزيع منشورات الإخلاء حتى إعداد ردّ شامل على ملاحظات المنظمات الدولية، معتبرة أنّ ذلك شرط للحفاظ على الشرعية الدولية لعمليات الجيش ولتوفير حماية قانونية لضباطه في حال جرت ملاحقتهم أمام محاكم دولية. وأوضحت أنّ الجيش لم يقدّم حتى الآن الوثيقة الإنسانية المطلوبة رغم توجيهاتها السابقة.
في المقابل، وجّه ضباط بارزون في الجيش انتقادات للمدعية العامة العسكرية، متهمين إياها بمحاولة تعطيل أوامر الإخلاء في اللحظة الأخيرة. وقال أحدهم إنّها "لم تبذل جهدًا منذ بداية الحرب لمنع استهداف المدنيين أو للتحقيق في أحداث خطيرة مثل مقتل عاملين إنسانيين في رفح أو قصف المستشفيات"، مضيفًا أنّها تتأثر أحيانًا بـ"الضغوط السياسية والانتقادات من اليمين".
وأشار ضابط آخر إلى أنّها طرحت خلال النقاشات أسئلة عن شروط الصحة العامة والصرف الصحي في الجنوب، ورغم إدراكها أنّها لا تلبي القانون الدولي، فإنها قبلت في نهاية المطاف عدم جعلها شرطًا مسبقًا لبدء الإخلاء. ومع ذلك، أعادت بعد قرار زامير تأكيد موقفها بأنّ العملية غير قانونية في غياب استعدادات كافية ورفضت المصادقة عليها.
وعُقدت جلسة إضافية الإثنين، بحضور زامير وقائد المنطقة الجنوبية ومنسق عمليات الحكومة بالإضافة إلى عدد من القادة، غابت عنها المدعية العامة العسكرية، واتُخذ القرار النهائي ببدء الإخلاء وتعميم منشورات الإخلاء على السكان. وشددت المدعية العسكرية لاحقًا لكبار الضباط أنّ موقفها القانوني لم يتغير، وأنّ الرد على الانتقادات الدولية شرط أساسي لاستمرار شرعية الحرب وحماية القيادة العسكرية من تبعات قضائية محتملة.
وأمس، نشر الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، بيانًا دعا فيه جميع سكان مدينة غزة إلى المغادرة فورًا عبر شارع الرشيد نحو ما وصفه بـ"المجال الإنساني في المواصي". وأضاف في رسالته: "بقاؤكم في المدينة خطر جدًا على حياتكم". وأكدت مصادر في النيابة العسكرية أنّ هذا القرار "لم يحصل على مصادقة قانونية"، وأنه "لا يمكن الدفاع عن قانونيته في الظروف الراهنة".
وردّ الجيش على الانتقادات بالقول إنّه "يعمل وفق جميع القوانين، وأي ادعاء آخر غير صحيح"، مضيفًا أنّ النيابة العسكرية "منخرطة في جميع التقييمات المتعلقة بتحريك السكان من أجل حمايتهم"، وأنّها عرضت على الجهات المعنية "الشروط اللازمة لذلك". وادعى الجيش أنّ الجهة التي صادقت على عملية الإخلاء هي الطواقم المهنية في وحدة منسق أعمال الحكومة بعد أن "تحققت من استيفاء الشروط وتوافر الوضع الإنساني الملائم". لكنه لم يشر في بيانه إلى موقف المدعية العامة العسكرية التي رفضت الخطوة.