الواقع اللغوي العربي وازدواجية التعبير ...
تاريخ النشر : 2014-12-21 23:35

العلاقة بين اللغة العربية وبين الثقافة والفكر العربي لم تكن على موضع أزمة كما هي عليه الآن حيث الاحتفال في هذه الايام بعيد اللغة العربية العالمي لأن ما يسود الواقع اللغوي العربي من وجود اللهجات المحلية التي هي المعادل الموضوعي للتجزئة السياسية وتفشي الأمية والأخطاء التي تقع فيها مؤسسات التعليم العربية ووجود لغة أخرى أو أكثر (الإنجليزية والفرنسية) ينقاد لها بعض المثقفين والكتاب العرب يصوغون بها أفكارهم وتجربتهم الأدبية.. كل ذلك يؤكد وجود مشكلة لغوية في نطاق التعبير الأدبي والتعبير القولي وذلك في وقت يعاني فيه المجتمع العربي من مسألة التخلف الحضاري.

في نطاق التعبير الأدبي توجد اللغة الفصحى بين المتعلمين والمثقفين بعيداً عن صفوف الجماهير وتعد وسيلة مشتركة للتفاهم فيما بينهم والتقائهم فكرياً وسياسياً وعاملاً للإثراء الثقافي وتبادل الخبرات المختلفة في حين تنتشر العامية بين غالبية الناس في الوطن العربي وتتداول في الخطابة والمعاملات وتجد الاهتمام والتشجيع من بعض المؤسسات التعليمية والثقافية البرجوازية والرجعية العربية والاستعمارية على الرغم من عجزها عن التعبير عن حاجات المجتمع العربي الفكرية والمادية.

هكذا فالواقع اللغوي العربي يشهد ازدواجية في التعبير وهو واقع مخيف، ففي ظل التجزئة السياسية وتكرس الإقليمية تزداد خطورة اللهجات المحلية وتتسع الفروق فيما بينها وتكثر الدعوات لإحلالها محل الفصحى بدعوى اتهام اللغة العربية بالعجز والتقصير وعدم القدرة على استيعاب مضامين العصر الحديث العلمية والفكرية والفلسفية والصراع بين الفصحى والعامية صراع بين هدف الوحدة القومية وواقع التجزئة والانفصال، فاللغة العربية الواحدة هي الوحدة القومية المنشودة للأمة العربية في حين أن اللهجات المحلية هي التجزئة الإقليمية..

اللغة العربية والفكر القومي:

إن اللغة هي وعاء العلم والأدب والمعرفة بشتى فروعها وهي على المستوى القومي فكر الأمة وروحها تحمل تراثها الفكري والحضاري وبها تعبر الأمة عن نفسها ومكنون أفكارها ومشاعرها واللغة العربية قادرة على تحمل أعباء العلم والأدب والمعرفة المتشعبة في العصر الحديث على الرغم من بعض العقبات التي تحول دون انطلاقها وهي – أي اللغة العربية – عامل حاسم في تطور الأمة العربية وتجاهل ما تعانيه من مشكلات يعني التقاعس عن تحقيق هدف الوحدة.

والسؤال: أين الفكر القومي التقدمي من مشاكل اللغة العربية؟ هل وضع المفكرون القوميون التقدميون في الوطن العربي والأدباء الثوريون الملتزمون خطة عملية لتصحيح هذا الواقع اللغوي المخيف؟

إن اللغة العربية تواجه تحدياً حضارياً كبيراً يضعنا أمام خطر جديد.. فمن الدعوة إلى استعمال الحروف اللاتينية.. إلى الدعوة إلى اعتماد العامية.. إلى إيجاد لغة ثالثة تقوم على المزج بين اللغة الأم واللهجات.. والفكر القومي التقدمي العربي عاجز عن الانتقال من صعيد الفكر إلى صعيد التطبيق والعمل إلا في استثناءات نادرة.

لقد وعت بعض الأقطار العربية أن المستعمر الأجنبي لا يؤمن لنفسه وجوداً بعد مرحلة الاستقلال السياسي للبلدان النامية إلا بواسطة السيطرة الثقافية والفكرية على العقول.. فعملت على محاربة الثقافة الأجنبية الاستعمارية والقضاء على كل مظاهرها اليومية فأكدت استعمال اللغة القومية في كل مجالات الحياة بتغيير الأسماء والمصطلحات الأجنبية وفرضها في مجال العلم والتاريخ والعلاقات السياسية والحد من تأثير اللغات الأجنبية (الإنجليزية والفرنسية) في مجال التعليم فيما يمكن أن يساهم كل ذلك بطريقة جدية في معالجة بعض جوانب مشكلة اللغة العربية في حياتنا المعاصرة.

نقول: في مجال التعبير الأدبي لم يستطع الفكر القومي التقدمي أن يضع خطة عملية لتصحيح مسار الوضع اللغوي العربي تحقيقاً للهدف الذي تطمع الأمة العربية للوصول إليه فلم يستطع أن يعطي في هذا المجال (المجال اللغوي) كما أعطى مثلاً في الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فاللغة التي هي مقوم أساسي من مقومات الوحدة العربية لم تلقَ ما يكفي من الاهتمام من الفكر القومي ومن حركة التحرر العربية!

إن الحديث عن وحدة الامة العربية والتنظير لها بمعزل عن حل مشاكل اللغة العربية التي هي أساسية في إعداد الجيل العربي القادم الذي سيبني هذه الوحدة هو حديث لا يتلاءم مع تحديات الربع الاول من القرن الواحد و العشرين، فما بين اللغة والوحدة في الوضع العربي هو علاقة عضوية تنعكس على بناء الإنسان العربي ذاته وتؤكد حركة المجتمع فيه، الأمر الذي يدفعنا للوقوف طويلاً أمام هذه المسألة.

كيف تصبح اللغة العربية الفصحى لغة الشعب والجماهير معاً؟

متى تنتشر من المحيط إلى الخليج لغة عربية واحدة في اللفظ والمعنى والمصطلح بعيداً عن تعدد اللهجات المحلية ويكون الأدب في هذه اللغة انعكاساً حقيقياً صادقاً للاتجاه الحضاري للأمة العربية؟

اللغة والأدب العربي:

إن المشكلة اللغوية التي تواجه الأمة العربية لا تخص الفكر القومي التقدمي السياسي والاجتماعي فقط إنها مشكلة الأدب والمناهج التربوية والمؤسسات التعليمية في الوطن العربي بيد أن الأدب يتحمل مسئولية خاصة في هذا الإطار لأنه يعكس جميع التحولات الاجتماعية في المجتمع بأبعادها الفكرية والثقافية والتربوية والعلمية باعتبار أن اللغة العربية فيه هي الوسيلة الوحيدة للاتصال والتعبير والمعاملة الرسمية والتعليم.

على الأدب العربي في ظل تفجر طاقات الخلق والإبداع في الأمة العربية أن ينأى عن استعمال المفردات العامية والأجنبية خاصة في تلك الأنواع الأدبية التي هي وثيقة الصلة بالعامية كالمسرحية والقصة والرواية وذلك حتى لا يعطي هذه المفردات حيوية ودلالات وخصائص قد لا تتوفر في الفصحى.. كما عليه أن يواكب تطور الحياة العربية الحديثة فتحمل لغته المرونة الكافية بعيداً عن دعوى التحجر والجمود.. تلك الدعوة التي تنكر على اللغة أن تكون كائناً حياً متطوراً وتنكر على الأديب أيضاً مشروعية التجديد فيها.

لقد فشلت الدعوة إلى اعتماد اللهجات المحلية كما فشلت أيضاً الدعوة إلى استبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني في الكتابة، أما الدعوة إلى (تثوير اللغة العربية) تلك الدعوة الرائجة الآن حيث يتبناها كتاب وشعراء هي دعوة انعزالية بعيدة عن قضية التجديد في الأدب العربي لأنها تقوم أساساً على فكرة امتهان اللغة العربية والتلاعب بأصولها وضوابطها في محاولة لجعلها لغة نخبوية خاصة بعيدة عن فهم وإدراك الجماهير الشعبية..

بقي علينا أن ندرك أن لغتنا العربية في عصر انفجار المعرفة وتطور آفاق الثقافة والفكر عليها أن ترتقي في معاني مفرداتها وأساليبها وقواعدها وذلك حتى تواكب متطلبات المستقبل العربي فيتم تناول هذه القواعد تناولاً عصرياً في معالجة تربوية جادة ومفيدة من شأنها أن تحبب هذه اللغة إلى نفوس الطلبة فينكبون عليها قراءةً ومناقشةً وتفكيراً وذلك هي المهمة التي يجب أن تضطلع بها مؤسسات التعليم العربية.. إن السياسة التعليمية الصحيحة هي تلك التي تشجع اللغة القومية خاصة في سني الطفولة وفي مراحل التعليم المختلفة ومجالات العلم والسياسة وتؤكد ترسيخها لا على استبدالها أو إهمالها فاللغات والثقافات لا تستطيع أن تعيش في هذا العصر الحديث إذا ابتعدت عن السلطة والحياة، والمجتمعات التي تؤمن بالنخبوية لا تصمد اللغة القومية فيها ولا تعيش.