التكامل العربي.. سبيلاً لنهضة إنسانية شاملة
تاريخ النشر : 2014-04-14 11:40

يكشف تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الاسكوا) بعنوان «التكامل العربي: سبيلاً لنهضة إنسانية» أن «الوطن العربي اليوم أشبه بسفينة تتقاذفها أمواج عاتية، وأشد ما تحتاج إليه هو بوصلة ملاحية تحدد المقصد وتهدي الرحلة الطريق. ومن هنا طرح فكرة التكامل مجدداً، حتى لا يفوت المنطقة في المستقبل ما فات في الماضي، خصوصاً أن المنطقة العربية التي تضم أقل من خمسة في المئة من مجموع سكان العالم، تشكّل مصدر أكثر من نصف لاجئيه، وأنها اليوم أقل تصنيعاً مما كانت عليه في ستينات القرن الماضي، وتنافس على المرتبة الدنيا بين مناطق العالم في مستوى الانتاجية.
وإذ يؤكد أن المراقبين لا يختلفون في توصيف حال الدول العربية اليوم بعد المأزق التنموي الذي وصلت إليه من تخلف معرفي وهشاشة في البنى الاقتصادية وتفشي الظلم الانساني، يطرح التقرير بديلاً للخروج من القهر والاستباحة الخارجية والتعثر التنموي، الذي هو وليد عقود من التشرذم والإخفاق في نهج التنمية السياسية والاقتصادية، لا سيما بعد أن انتشر الفساد بمختلف أشكاله، فتبوأت دول عربية مراكز متقدمة على لوائح الفساد العالمية.
ويدعو التقرير إلى إحياء فكرة التكامل بين الدول العربية، إذ إن السبيل الوحيد لتحقيق هذه النهضة، هو امتلاك مقوماتها، من إرادة مستقلة وعلم مبدع وقدرة فعلية لا وهمية وحياة دائمة التجديد والتجدّد، وإلى إنهاء الصراع المتصاعد بين دعاة التحديث ودعاة التأصيل، حيث انتهج الطرفان نهج إلغاء الآخر، وأغرقا الأمة العربية في صراع مقيت حاد بها عن مسار البناء الجديد. ويرى الحل فقط في العزوف عن المقابلة بين الحداثة والأصالة، وعن المغالاة في هذه وتلك، للانتقال إلى الحداثة الأصيلة التي هي عينها الأصالة الحديثة.
ويؤكد أن إسقاط نظام الحكم هنا أو هناك لم يكن إلا أحد التحولات الأولية للانتفاضات، أما أهم نتائجها فولادة انسان عربي جديد ينشد حريته ويدرك حقوقه ويعتزّ بثقافته ويثق بقدراته وإمكاناته.
دعوة متجددة يطلقها التقرير الذي أعدّته «الاسكوا» بمشاركة مجموعة من المفكرين العرب، من أجل نهضة انسانية شاملة، ليطرح التساؤل الآتي «هل هذا أوان تجديد الدعوة للتكامل العربي؟ ولما تجديد الدعوة الآن والأمّة ممزقة؟ وقد يبدو للبعض أن تجديد الدعوة في هذه الحقبة لا يعدو كونه إغراقاً في حلم بعيد المنال ومغالاة في طموح قد يبدو أقرب إلى الخيال منه للواقع.
التكامل يوطد العلاقات الاقتصادية
فمشروع التكامل العربي الشامل الذي يدعو له التقرير لا يعني الانتقاص من مشروعات التكامل الاقتصادي العربية القائمة، بل استكمالها وتوسيعها لتشمل جميع الفضاءات السياسية والتربوية والثقافية؛ ولا يأتي ليعزل الوطن العربي عن محيطه الطبيعي والعالم، بل ليوطد العلاقات الاقتصادية مع الكتل والتجمعات الأخرى، خصوصاً في العمق الأفريقي والآسيوي للعالم العربي، وليوثق التفاعل مع الحضارات الانسانية.
كما تأتي الدعوة للتكامل، بحسب التقرير، والوطن العربي يعاني من صراعات داخلية مريرة تصل حد حروب مروّعة في بعض أجزائه، ربما هي نتيجة لعقود طويلة من الإقصاء والتهميش قطرياً والتشرذم إقليمياً، حيث تزرع هذه الصراعات الشك في نفوس الكثيرين حيال إمكانية وجدوى التكامل بين بلدان تجهد من أجل الحفاظ على الحد الأدنى من التعايش بين أطياف شعبها الواحد. ويزيد من صعوبة التكامل عالم تتناقض فيه غايات ومصالح قوى فاعلة مع البيئة اللازمة لقيام مشروع جاد للتحرر والنهوض العربي، يرى فيه التقرير ضرورة بل شرط وجود، إلا أن المشهد العربي لم يخل من إضاءات تجعل الحلم ممكناً. فمع نهاية العقد الأول من الألفية، عمّت البلدان العربية صحوة شعبية اتخذت ملامح عدة، بشرت بإمكانية الخروج من المسار الراهن إلى المسار المنشود، بإرادة شعوب توّاقة إلى التحرر والنهضة. ولعل في ذلك عودة للعرب إلى مكانة مستحقة في مسيرة البشرية نحو التحرر والرقي.
رؤية استراتيجية لتكريس التكامل
ويقدّم التقرير رؤية استراتيجية مبدئية لتكريس التكامل العربي الفعال بأوسع أبعاده، السياسي والاقتصادي والاجتماعي والشعبي والثقافي. أما طرح فكرة تبدو مستبعدة لكثرة التكرار وقلة الثمار، فيحمل الكثير من الرسائل والمعاني، إذا لم يكن مستوى تبني الفكرة أو العمل بها في السابق ليرقى إلى جوهرها وأهميتها لمصير الأمة. ومن منظور التقرير، بات تجديد الدعوة اليوم ضرورة، لأن جميع البلدان العربية، غنيها وفقيرها، إذا بقيت منفردة، تبقى صغيرة وضعيفة في الساحة العالمية بمعيار أو بآخر، خصوصاً مقارنة بالدول والتكتلات العملاقة. ولو لم تكن منفردة، لما استبيحت واعتمدت على العالم الخارجي في الوفاء بالكثير من احتياجاتها الأساسية، ابتداء من الغذاء وانتهاء بسلع المعرفة المتقدمة.
أما اليوم، وقد أصبح جلياً حجم البؤس الإنساني الذي ترتب على سياسات التشرذم والتشتت والانقسام، لا بدّ من تجديد الدعوة إلى مشروع ليس بجديد، ولكن من منظور جديد، بحيث يصلح ما فسد ويبني على ما أنجز.
ورغم الاخفاقات والعثرات التي منيت بها مسيرة التكامل العربي، ما زال حلماً راسخاً في وجدان الشعوب العربية، فكان الناس دائماً يجتمعون حول القضايا الكبرى من وراء الحدود المقفلة في حركات تضامن سبقت في الكثير من الأحيان السياسات والبرامج الرسمية، فيلتقون حيث يتفرق السياسيون، ويتناقض الخطاب الإعلامي الرسمي. وقد اتخذ التكامل العربي الشعبي تجليّات لا حصر لها، وبلغت صور التكامل في بعض الحالات، كما في حالة القضية الفلسطينية، مستوى ابتكار هويّة انسانية فردية أو جماعية، تتجاوز الهويّات المباشرة المرتبطة بالجنسية أو حتى بالقومية العربية نفسها، إلى مجال إنساني أكثر رحابة.
صيانة الحقوق والحريات
والمقصود بالتكامل الذي يدعو إليه التقرير هو ذلك الذي يفضي إلى نهضة تنعكس إيجاباً على التنمية الانسانية والأمن القومي، فيتيح بناء وطن ناهض يصون الحقوق والحريات والكرامة الانسانية لكل مواطن عربي.
أما التكامل في الاقتصاد فلم يعد أحد أهم المقومات الأساسية للتنمية والازدهار فحسب، بل أضحى من مستلزمات البقاء مع قيام تجمعات إقليمية عملاقة، حيث إن تجارب التكامل الاقتصادي الرائدة التي نجحت في العالم، وخصوصاً في أوروبا، كانت الإرادة السياسية الحاسمة سند نجاحها الذي عاد بالنفع الاقتصادي الكبير على كل من أعضائها.
وخلاصة التقرير، أن تأجيل التكامل العربي إلى حين نهوض كل مكونات الوطن العربي إنما يضيّع فرصة تاريخية ونادرة لقيام مشروع نهضة إنسانية تتخذ من فرص التغيير، التي لم تشهد مثلها المنطقة منذ قرون، جسر عبور. وأي تأجيل إنما يؤدّي إلى إدامة الواقع الراهن الذي أعجز الوطن والمواطن عن النهوض بالجزء، أي قطرياً، وبالوطن العربي، أي كلياً. فهل تنتقل المنطقة العربية مرة أخرى، عبر مشروع جدي ورصين للتكامل، من إرث التعثّر وزمن الاستباحة إلى زمن نهضة انسانية شاملة؟ علماً أنه لم يعد من الجائز التأخر في طرح السؤال.
التكامل رافد للعمران
وبحسب التقرير، يشي تعثر محاولات التكامل الاقتصادي إما بخلل في السياسات ذاتها أو في أسلوب تطبيقها. ويستند إلى دراسات عدة ونماذج اقتصادية متطورة لتقديم تقديرات قياسية وبيانية لأثر تعميق التكامل الاقتصادي العربي مقابل ما ستكون عليه هذه المؤشرات إذا استمرت الأوضاع الراهنة على حالها. ويقترح سيناريوات محتملة لمسارات استكمال منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، وإنشاء اتحاد جمركي عربي، ويقارنها بمسارات أخرى تشتمل على تحرير تجارة الخدمات، وتحسين سلاسل الإنتاج وتخفيض تكاليف النقل، وزيادة نسبة القوى العاملة العربية من مجموع القوى العاملة الوافدة إلى البلدان العربية. وحصيلة هذه السيناريوات أن استكمال منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى يؤدي إلى بعض الأرباح لجميع البلدان العربية ولكن بمستويات مختلفة.
أما إنشاء الاتحاد الجمركي العربي بحلول عام 2015، على أهميته وضرورته في التمهيد للتكامل الأوسع، فلا يحمل منافع حاسمة لجميع البلدان العربية ما يشير، وفق التقرير، إلى أهمية الاتفاق على آليات لتوزيع المداخيل الجمركية بين البلدان العربية، وإنشاء آليات لتعويض البلدان الأقل استفادة من الاتحاد، ومساعدة القطاعات التي قد تتضرر من هذا المشروع.
ولإبراز أهمية التوسع في التكامل الاقتصادي إلى ما يتجاوز تحرير التجارة وإنشاء الاتحاد الجمركي، يقدم التقرير سيناريو إضافياً تُخفض بموجبه تكاليف النقل على التجارة العربية تدريجياً ويُستبدل جزء من القوى العاملة الوافدة مستقبلاً من خارج المنطقة العربية بقوى عاملة من المنطقة. كما أن اضافة هذين الإجراءين للاتحاد الجمركي كفيلة بتحقيق نمو إضافي في الناتج المحلي العربي يعادل 3 في المئة عام 2020، وبخفض البطالة في صفوف القوى العاملة بنسبة تفوق 4 في المئة. وتعادل نسبة النمو الاضافي عند تراكمها760 مليار دولار اضافي في الدخل العربي أي ما يتجاوز ما أنتجته جميع الدول العربية في شمال أفريقيا مجتمعة في عام 2013.
وتظهر نسبة الانخفاض في البطالة في خلق ستة ملايين فرصة عمل جديدة، تسهم في تحقيق مستويات أعلى من الرفاه الانساني لجميع العرب، وتساعد في مكافحة آفتي الفقر والبطالة في جميع البلدان، واللتين كانتا الدافع الرئيسي للانتفاضات العربية. وكان اللافت أن إجراءات التكامل الاضافية هذه تعود بالنفع الكبير على جميع الدول العربية، غنيها وفقيرها، الأمر الذي يبدد الانطباع السائد بأن التكامل العربي يساعد الأقل نمواً على حساب الأكثر ثراءً.
التكامل الثقافي مساحة للوجدان العربي
لم يغفل التقرير دور الثقافة في مشروع التكامل، الذي كثيراً ما اعتُبر قصراً على السياسة والاقتصاد، ورأى في التكامل الثقافي رافدا ًأساسياً للتكامل الشامل. ولم يغفل دور الرقابة الرسمية في وزارات الثقافة والإعلام كما الرقابة المجتمعية، في تشكيل عازل معنوي وعقلي، يحوّل المثقف إلى موظف خاضع للإيديولوجيا الواحدة.
ويرى التقرير في الإبداع الثقافي والفني وسيلة للتكامل، ولغة له، ورسالة إليه. فهو وسيلة لكسر قيود التشرذم وتوسيع فسحة اللقاء، ولغة تملك قوة التغيير مع الزمن، ورسالة تصل إلى البعيد حتى عندما يرتفع صوت الرسائل الأخرى.
التشرذم يتيح التدخلات الخارجية
ويلفت التقرير إلى أن مشروع النهضة الإنسانية في الوطن العربي واجه مجموعة مخاطر وتحديات سياسية واقتصادية وأمنية ومالية، ربما كانت القدرة على تجنّبها أو احتوائها أكبر بكثير لو واجهتها المنطقة كتلة واحدة.
كما لم تسلم مشروعات التكامل العربي من التدخلات الخارجية التي كان للمنطقة نصيب منها لم يُسمح به في أي منطقة أخرى من العالم. وقد نجم عن عقود طويلة من التشرذم العربي مجموعة ضخمة من المخاطر ليس أقلها الاستباحة الخارجية التي تتخذ أشكالاً عدة، تبدأ بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والجولان وبعض أجزاء لبنان، ولا تنتهي بانتشار القواعد العسكرية الأجنبية في أكثر من ثلث الدول العربية.

ويشير التقرير إلى خطر البرنامج النووي الإسرائيلي الذي يبقى خارج الرقابة الدولية، وإلى قيام إسرائيل بدعم الحروب الأهلية وزرع الفتنة بين مكونات شعوب المنطقة سعياً إلى إقامة دويلات طائفية فيها.

وقد ساهمت الفرقة العربية والفشل في اتخاذ مواقف موحدة إزاء الأزمات والقضايا الكبرى في تدهور الأمن القومي والإنساني، وتشجيع الاستباحة الخارجية للوطن العربي واستدامتها، وفي تغليب تبعية القرار السياسي لقوى خارجية تريد ضمان مصالحها. ويشير التقرير إلى أن التنسيق العربي في مواجهة التهديدات الخارجية والتزام مبدأ الدفاع المشترك، الذي اعتُمد نظرياً منذ زمن، قد بات ضرورة في الواقع مع ارتفاع فاتورة التسلح، وازدياد الانتهاكات للحقوق العربية.

وقد أدّى تدهور الأمن القومي إلى استفحال مشاكل اللجوء والتهجير القسري في المنطقة، التي تضم أقل من 5 في المئة من مجموع سكان العالم وأكثر من53 في المئة من مجموع اللاجئين فيه. وهذا لا يشمل اللاجئين السوريين الذين ارتفع عددهم ليتجاوز عام 2013 مليوني لاجئ مسجلين رسمياً».

تحدّيات الأمن المادي والغذائي والمائي

ما زالت دول عربية عدة أسيرة الاعتماد المفرط على المعونات الأجنبية، التي كثيراً ما تتحوّل إلى أداة نفوذ وهدر وفساد وارتهان لمصالح الجهة الممولة. ويشير التقرير إلى أن وجهة استخدام هذه الإعانات في الغالب تكون بعيدة عن التنمية وعن الرقابة والمساءلة. وتتبوأ دول عربية مراكز متقدمة على لوائح الفساد في العالم. وسجلت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تضم البلدان العربية، أعلى معدل لتزايد الأموال المهربة والتي تأتت عن طرق غير مشروعة، حيث بلغ قرابة 50 في المئة في السنة. وينتشر في البلدان العربية النفطية وغير النفطية نمط الاقتصاد الريعي، والذي ينفي الحاجة إلى إقامة بنية إنتاجية قوية ومتنوعة، ويفصم علاقة المساءلة بين الحاكم والمحكوم، ويشوّه الحوافز المجتمعية بالحط من قيمة العمل المنتج، ويحبط منظومة اكتساب المعرفة.
كما أن وضع المنطقة اليوم، بحسب التقرير، أسير تحديات اقتصادية واجتماعية وبيئية قد يكون من أهم تجلياتها حاجتها في عام 2020 إلى ما لا يقلّ عن 51 مليون فرصة عمل جديدة، وضرورة الارتقاء بالتنمية، بجميع أبعادها، في ظل معضلة الأمن المادي والغذائي والمائي وندرة الموارد الطبيعية.
ويركز التقرير على هذه الأسباب وغيرها من مخاطر التشرذم وتحديات التنمية الاقتصادية والسياسية، مشيراً إلى غلبة الولاءات الطائفية أو العرقية على الوطنية بسبب غياب الحكم الديموقراطي الصالح المستند إلى مبدأ المساواة في المواطنة وفي الحقوق كافة. وبحسب التقرير، فإن الحرمان من بعض الحقوق لا سيما إذا اقترن بالتمييز ضد فئات اجتماعية أو طائفية أو عشائرية، لا يترك أمام الفرد أو الأسرة إلا البحث عن ولاءات أخرى خارج المواطنة، توسّلاً لدرء الظلم والاجحاف. وهذا النمط من الاقتصاد السياسي أهدر، برؤية التقرير، طاقة الشعوب وأدّى إلى تراكم الاجحاف الاجتماعي، الأمر الذي ساهم في إشعال شرارة الانتفاضات الشعبية منذرة بالتغيير، مطالبة بالخبز، كما بالحرية والعدالة والكرامة الانسانية.
ويخلص التقرير إلى أن التشرذم المانع للتكامل العربي ينسحب أيضاً على النسق التعليمي والتربوي، حيث إن التقدّم العددي لم يرافقه تقدم على مستوى الجودة. ويظهر ذلك في مستوى التحصيل العلمي في الاختبارات الدولية. أما منظومة البحث العلمي فهي أضعف بكثير من أن تساهم في مشاريع التنمية الإنسانية لافتقارها إلى المقومات المؤسسية والبشرية، حيث نصيب العرب من النشر العلمي يقل عن 1 في المئة، كما أن الانفاق على البحث العلمي والتطوير التقني هو في المستوى الأدنى.
لا تكامل في دول مجزّأة
وفي ضوء التحديات المزمنة والمستجدة التي يشهدها الوطن العربي، يختصر التقرير مغزى «النهضة الانسانية« بغايات رئيسية ثلاث: صون الحرية والكرامة الانسانية للجميع، وهذا يستلزم إقامة حكم ديموقراطي صالح وتحرير الوطن العربي من جميع أشكال الاحتلال والنفوذ الأجنبي؛ إنشاء بنية إنتاجية عربية قوية ومتنوعة دائبة النماء والارتقاء؛ وإحياء الثقافة ذات الفعالية الابداعية «بإحياء أفضل مزايا الحضارة العربية الإسلامية وإثرائها بأفضل منجزات الحضارة الإنسانية«.
ويؤكد التقرير أن هذه المقومات لا يمكن تحقيقها في الدول المجزأة، حيث تتعذر حماية المصالح العامة، ويصعب اكتساب المناعة الضامنة لشروط السيادة والاستقلال، وتشييد بنى اقتصادية تتاح فيها للجميع فوائد التكامل الشامل.
فللتكامل السياسي الذي ينصب على دعم الحكم الديموقراطي الصالح على الصعيد القُطري، أهمية قصوى في إرساء شروط المناعة وتحقيق التنمية المستدامة. وعلى الصعيد الدولي، بمقدور التكامل السياسي العربي أن ينجز ما أخفقت في إنجازه الأنظمة العربية منفردة ليس فقط في ما يتعلق بالقضايا المصيرية كقضية فلسطين، بل أيضاً في حماية المصالح العربية عند وضع الأجندات العالمية المتعلقة بالتنمية، وضمان عدم انعكاس أي من قراراتها سلباً على فرص التنمية في الوطن العربي.
ومن إجراءات الدعم للشعب الفلسطيني إلى أن يحصل على جميع حقوقه المشروعة، يوصي التقرير بالعمل مع المجموعات الناشطة للسلام في العالم، على استصدار قرارات دولية تحظر التعامل مع المستوطنات الاسرائيلية، استرشاداً بما فعله الاتحاد الأوروبي.
ويبين التقرير الثغرات والتحديات في أطر السياسة والمؤسسات العربية الرسمية وعلى رأسها تحديات استقلال القرار، وقصور البنى القائمة على اختلافها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية والبيئية، ما يجعل قيام مشروع عربي متكامل أمراً فائق الصعوبة من دون المرور بإصلاحات بنيوية وجوهرية، تنتفي معها كل أشكال التعبير البديلة عن الهوية الإنسانية الجامعة.
ويتطرق إلى إصلاح المؤسسات القائمة لتؤدي الدور المرجو منها في تسوية النزاعات العربية بالطرق السلمية، وتحقيق التكامل العربي دعماً للتنمية الإنسانية في جميع الأقطار العربية.
والإصلاح الذي يدعو إليه التقرير على محاور عدة لا يستثني الإصلاح الثقافي بما فيه النهوض باللغة العربية وإصلاح الفكر الديني. وقد بات هذا الإصلاح ضرورة لاستنباط حلول تساعد على التخلص من التبعية من حيث هي بنية فكرية وثقافية، فتخرج الأمة من الصراع السطحي المتردد بين الرفض الانفعالي والتقليد الانفعالي لما أبدعته الحضارات الأخرى أو حتى للماضي الذاتي أو الاثنين معاً. فالإسلام، حسب التقرير، يتخلى عن خصائصه الثورية ما لم يكن إصلاحاً دائماً، يتجاوز سطح الأقوال والأفعال للوصول إلى معانيها العميقة.
أما في الإصلاحات التي يقترحها التقرير فدعوة ملحة إلى إنهاء الصراع المتصاعد بين دعاة التحديث ودعاة التأصيل، وقد انتهج الطرفان نهج إلغاء الآخر، وأغرقا الأمة العربية في صراع مقيت حاد بها عن مسار البناء الجديد. أما الحل فيراه التقرير فقط في العزوف عن المقابلة بين الحداثة والأصالة، وعن المغالاة في هذه وتلك، للانتقال إلى الحداثة الأصيلة التي هي عينها الأصالة الحديثة.
خلف: الثورات خلقت انساناً عربياً جديداً
وكانت الأمينة التنفيذية لـ»لاسكوا« ووكيلة الأمين العام للأمم المتحدة ريما خلف، أطلقت التقرير خلال حفل أقيم في تونس برعاية وحضور الرئيس محمد المنصف المرزوقي وحضور الرئيس نجيب ميقاتي وفعاليات، حيث أكدت أن «ثورات الحرية والكرامة ألهمت جميع العرب وأحيت لديهم آمالاً بالنهضة والعزة، كانت قد اختطفت منهم عنوة تحت وطأة القمع والتخلف«.
ولفتت إلى أنه «في مشهد عربي آخر استشرست قوى الماضي في قمع أي حراك شعبي فأقحمت بلدانها في فوضى هدامة، وشعوبها في صراعات مدمية. فبات البعض يتغنّى بفشل الثورات العربية، والبعض الآخر يحذّر من تبعاتها«.
وأوضحت خلف أن «التقرير يتناول ما سمّي بالربيع العربي، ويقر بأن درب التحول نحو الديموقراطية والحكم الصالح درب طويلة، ووعرة، ومحفوفة بالمخاطر. ولكنه لا يرى إمكاناً لعودة الاستبداد حتى وإن ارتدى حلة العصر. فقد خلقت الثورات انساناً عربياً جديداً، كسر حاجز القهر والخوف، وبات أكثر إدراكاً لحقوقه، وأكثر ثقة بقدراته وإمكانياته، وأكثر اعتزازاً بثقافته«.
وأشارت إلى أن «الحقوق العربية لم تكن لتستباحَ بهذا الشكل السافر، وأن القدس لم تكن لتُخنق تحت سياسات التهويد ومصادرة الأراضي وطرد السكان، وأنّ المقدسات الإسلامية والمسيحية لم تكن لتنتهك حرماتها، لو وحّد العرب مواقفهم ونسّقوا جهودهم حمايةً لها ولنفسهم، ولا أقول لو التزموا بما تعاهدوا عليه من دفاع مشترك«.
وأضافت: «بعد عقود تتالت خلالها خطط التنمية على أنواعها، ها هو العالم العربي اليوم أقل تصنيعاً مما كان عليه في ستينات القرن الماضي، وها هي المنطقة العربية تنافس على المرتبة الدنيا بين مناطق العالم في مستوى الانتاجية. ورغم مظاهر الثراء الفاحش، اتسعت دوائر الفقر حتى أسرت خُمس العرب. والبطالة ما فتئت ترتفع حتى بات ربع شبابِ العالم العربي اليوم وخُمسُ نسائه محرومين من عمل يوفر لهم عيشاً لائقاً. وسوء التغذية ينتشر حتى أصبح يطال خمسين مليون عربي، وأصبح أكثر من نصف مليون طفل في اليمن، وأكثر من مليون طفل في الصومال مهددين بالموت جوعاً«.
وأكدت أن «التقرير لم يصرّ على إلغاء تأشيرات السفر للعرب وإن تمنى ذلك، وكان جلُّ ما أوصى به في الأمد القصير هو أن تتم معاملة العربي معاملة مواطني الدولة الأَولى بالرعاية في ما يتعلق بالدخول إلى بلدان عربية أخرى«، آملةً أن تناقش القمة العربية المقبلة التقرير، «لعلها تقر ما تستنسبه من توصيات للأمد القصير. فقد يكون في ذلك خطوة أولى نحو الخروج من المأزق الراهن الذي لم يعد يورث إلا القصور والعجز. والأمل أن يطلق هذا التقرير حواراً عربياً، اتفاقاً أو اختلافاً يؤدي إلى تطوير ما ورد فيه. فلا بد للأمة العربية من أن تنهض من أجل نفسها ومن أجل غيرها. فنهوضها ضرورة عليها وحق لأجيالنا المقبلة«.