السلام المنفرد والعلاقة مع إسرائيل
تاريخ النشر : 2017-11-30 07:36

اهتزّ العالم العربي عندما أعلن الرئيس أنور السادات عام ١٩٧٧عن نيّته زيارة إسرائيل والتمهيد لعقد اتفاق سلام منفرد معها، لكن مبررات السادات أقنعت كثيرين من المصريين بأن مصر خاضت عدة حروب ضد إسرائيل وتحتاج لفترة سلام لإعادة بناء وضعها. من خلال اتفاق كامب ديفيد الموقع في ١٩٧٩ وبجهود الرئيس الأميركي جيمي كارتر استعاد السادات سيناء كاملة. لكن غاب عن صفقة السلام أنه تبين أن فرضية البناء التي احتاجتها مصر فقدت قيمتها بمجرد بدء عملية السلام المنفرد، إذ سعت إسرائيل بالأساس لاستغلال الاتفاق بهدف جعل مصر دولة ناقصة السيادة في سيناء، تعتمد على المساعدات الأميركية ومساعدات البنك الدولي لاقتصادها وجيشها. وبسبب كامب ديفيد وسياسة الولايات المتحدة ثم ردة فعل العالم العربي على الصلح المصري المنفرد إزدادت مصر ابتعاداً عن بقية العرب وعن القضية الفلسطينية مما سمح لإسرائيل بالاستفراد بمصر والانقضاض على الفلسطينيين. لقد عنى كل ذلك أن مصر المتينة بعمقها العربي والتزامها الإقليمي قد عزلت بالكامل بفضل كامب ديفيد والتنسيق الأميركي- الإسرائيلي. ما وقع في كامب ديفيد لم يكن مجرد تطبيع، بل سلام منفرد أخل بكل توازنات الصراع العربي- الإسرائيلي.

وقد علمنا السلام المصري- الإسرائيلي الكثير عن صفقات السلام المنفرد مع إسرائيل. فالمرونة العربية عندما تبرز تستثمرها إسرائيل حتى النهاية. وهذا يتداخل مع السياسة المعلنة للولايات المتحدة التي تلتزم بتفوق إسرائيل العسكري في كل الأوقات على مجموع الجيوش العربية. لقد دفع الرئيس السادات (الذي عرف عنه التزامه بمشروع لدولة مصر ضمن حدود تصوراته) ثمن الصلح المنفرد مع إسرائيل، إذ اغتيل عام ١٩٨١ من قبل وحدة من جيشه ليخلفه الرئيس حسني مبارك الذي سار في طريق هو الأقل التزاماً ببناء الدولة المصرية. لقد شكل، وليومنا هذا، اغتيال الرئيس السادات بعد سنتين على توقيعه اتفاق كامب ديفيد حدثاً تاريخياً غامضاً. إن من يقارن بين مصر قبل اتفاق كامب ديفيد عام ١٩٧٩ ومصر بعد الاتفاق سيكتشف الفارق بين الزمنين.

لم يأخذ العرب العبر من تجربة السلام المصري- الإسرائيلي المنفرد. فقد سار في درب السادات، في ظروف مختلفة، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية وزعيم حركة «فتح» ياسر عرفات عام ١٩٩٣ والملك حسين عام ١٩٩٤. لكن نتائج ذلك المسار المنفرد الذي أريد له أن يصل إلى حل عادل مع إسرائيل لم يؤمن الحقوق ولم يحرر الأرض، كما لم يتحول إلى مدخل لتحسين حياة العرب وأوضاعهم في المناطق التي أقامت المسار المنفرد مع إسرائيل. ولا زال المسار في المسألة الفلسطينية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل مفتوحاً، فهو لم يؤدّ إلا إلى مزيد من الاحتلال والقهر الوطني والقومي. ففي فلسطين احتلال مفتوح وحصار وجدران وحروب حول غزة وإرهاب إسرائيلي يومي بحق السكان وحقوقهم.

ومنذ زمن السادات إلى يومنا هذا لم تغير المسارات والاتفاقات المنفردة من طبيعة الصهيونية بصفتها حركة تسعى لأخذ ما تستطيع من أراضي الشعب الفلسطيني والسيطرة على الاقليم في تأمين نموها وتقدمها كدولة مركزية في الشرق الأوسط. فلا الطبيعة العنصرية للدولة اليهودية تغيرت منذ الاتفاقات ولا حصل تراجع في سعي إسرائيل إلى إضعاف العالم العربي وتفتيته على أسس طائفية وفئوية. ولم يكتب النجاح حتى لفكرة السلام العادل مع إسرائيل وفق الخطة المتوازنة للمغفور له الملك عبدالله بن عبدالعزيز في عام ٢٠٠٢، وذلك بسبب معارضة إسرائيل للفكرة. بل رفضت إسرائيل خطة السلام العربية مفضلة الجدران والفصل العنصري والحروب في الضفة الغربية ثم غزة ولبنان.

إن علاقة إسرائيل بالسلام، هي كالتالي: فهي تقبل عليه إن كان صلحاً منفرداً يتم بمعزل عن بقية العرب وضمن إطار يقدم لها الفرص لإكمال مشروعها التاريخي الذي يتضمن مزيداً من أخذ الأراضي والطرد الجماعي للفلسطينيين في ظل إضعاف وتفتيت العرب. فلا نجاح لإسرائيل بلا تفتيت وإضعاف للعرب أو في ظل الإسلام السياسي أو القومية العربية. إن هدف الصهيونية الأساس الحفاظ على اليهودية السياسية والقومية اليهودية وزيادة صعودهما، وفي الوقت ذاته الاشتباك مع العمق العربي وإضعاف جميع مكوناته الروحية والوطنية وجعله يعيش حالة الهزيمة والإحباط في كل شيء.

لهذا فقيام الدول العربية بالتفكير في السلام المنفرد في المرحلة القادمة لن يضمن لها النتيجة التي يطرح السلام باسمها. فإسرائيل الأكثر تفوقاً في المجال الاقتصادي والتكنولوجي والعالمي لن تترك العرب وحدهم حتى لو تركوها في حدود ما وصلت إليه اليوم. إسرائيل ليست اليابان أو حتى ألمانيا من حيث سعيها لنقل المعرفة إلى محيطها أو من حيث تاريخ نشوئها وطريقة تفكيرها. إسرائيل تعي أن أي تقدم في وضع العرب سوف ينعكس عليها سلباً. لهذا فبقاء إسرائيل في الإقليم غير ممكن إلا إذا أحاطت نفسها بمناطق تسيطر عليها عبر أحزمة فقر وضعف واستبداد، وعبر وسائل التقنية والإدارة والسيطرة العالمية. إسرائيل في الجوهر قوة استعمارية وعنصرية رغم حداثة مظهرها. لهذا فالتدمير المنهجي الثقافي والديموغرافي والإنساني بل والديني والقومي الذي مارسته إسرائيل وتمارسه الآن بحق سكان فلسطين الأصليين دليل واضح على طبيعة الصهيونية.

ويطرح البعض فرضية الاستسلام كوسيلة لاستعادة الأنفاس وامتلاك القوة. لكن لو عدنا قليلاً إلى تاريخ القرن العشرين، فقد شكّل استسلام اليابان والمانيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية فرصة لنهضة اليابان وألمانيا من براثن الدمار، لكن استسلام العرب (لمن يقول بفرضية الاستسلام كوسيلة للتنمية) لن يؤدي إلى ذلك، كما يؤكد لنا نموذج تحرير العراق في ٢٠٠٣ من نظام البعث ونظام صدام على يد القوات الأميركية. فبسبب إسرائيل، لم يقع ذلك، بل أخضع العراق للاحتلال الأميركي وتم حل الدولة العراقية، وهذا أدى إلى الوضع الذي نراه اليوم في العراق.

ولو تم تعميم الصلح المنفرد السياسي والمؤسساتي (وهو أشمل من التطبيع في العلاقات) بين العرب وإسرائيل ستتفاقم أزمة الشرعية العربية، فالعالم العربي يعي مدى الظلم الذي تمارسه إسرائيل، وهو لهذا لن يقبل سلاماً منفرداً يؤدي إلى استيعاب إسرائيل في بنيته الإقتصادية والسياسية. السلام المنفرد سيرفع، من جهة أخرى، من شرعية كل من يتصدى له، كما سيفرض على إيران وتركيا كدول إقليمية كبرى تحمل مشروعاً سياسياً المزيد من التصدي لإسرائيل، ما سيعزز شرعية البلدين لدى الشعوب العربية والإسلامية. السلام المنفرد العربي مع إسرائيل في ظل القبول باحتلالها في فلسطين والقدس والجولان وتفوقها على المحيط العربي سوف يؤدي إلى المزيد من العنف في الإقليم.

وبإمكان العرب التخلص من نفوذ إيران بوسائل مختلفة، عبر ترتيب توازناتهم الذاتية والعمل على ترسيخ قيم محددة حول الإنسان والديموقراطية والحريات. لكن لو تمكنت إسرائيل من الوضع العربي فسيكون من الصعب على النظام الرسمي العربي التخلص من نفوذها لأنه سيتضمن سيطرة أكثر أخطبوطية على الصعيد الاقتصادي والمؤسساتي، وفي هذه الحالة سيجير جزء مهم من النفوذ الإسرائيلي في الولايات المتحدة لصالح السيطرة على الحالة الرسمية العربية التي تتورط في صلح منفرد.

إن لإسرائيل كل المصلحة في استمرار «الإرهاب الإسلامي» لأنه يقرب الغرب منها ويستنزف الأنظمة العربية. ولنتذكر بأن جانباً من هذا الإرهاب حقيقي ويعكس أوضاع البطالة وحالة المهمشين العرب، وفي جانب منه هو نتاج اعتداءات إسرائيل وجرائم الحرب التي ترتكبها منذ عام ١٩٤٨ إلى يومنا هذا، لكن جانباً آخر من الإرهاب المسمى إسلامياً تمارسه أجهزة مخابرات تابعة لدول. فإسرائيل قادرة أكثر من غيرها على اختراق الجماعات العنيفة وقادرة في الوقت ذاته على توجيه عنفها نحو الغرب. إن جانباً من تشويه صورة العرب والمسلمين قامت به جماعات متطرفة عنيفة، لكن إسرائيل هي المستفيد من الكثير من أعمال العنف في أوروبا، فإسرائيل تكسب كل يوم من صعود الشعبوية في أوروبا والولايات المتحدة. إن يد الأجهزة الإسرائيلية ليست بعيدة عن اختراق بعض الجماعات المتطرفة وتوجيهها بما يخدم السياسة الإسرائيلية.

إن السلام المنفرد في ظل سياسة الاحتلال الإسرائيلي وفي ظل تفكك الدول العربية، سوف يعني عملياً تسليم أجزاء أساسية من العالم العربي للسيطرة الإسرائيلية على الصعيد الإقتصادي بل والأمني والمؤسسي. سوف تسعى إسرائيل إلى استخدام قوّتها من أجل إعادة إنتاج التفكك العربي الداخلي والإقليمي، بل ستسعى إلى إضعاف العرب عبر جعل دولهم في حالة استنزاف دائمة. السلام المطروح الآن، مهما كان شكل الصفقات المنفردة، سيؤدي إلى مرحلة جديدة من المواجهات من قبل ضحايا إسرائيل. قد يستقبل العالم العربي السلام المنفرد إن وقع في مرحلته الأولى بوجوم ودهشة، لكن هذه الدهشة ستتحول إلى نقيضها عندما تتضح الحقيقة.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت

عن الحياة اللندنية